Archive: هواجس ساخرة قديمة 1986-1989

الطابور الخامس

إنتابنى شعور عارم وأنا أتابع شريط الاحداث فى السودان، خاصة منذ تٙفجُر الأوضاع فى هيجليج وأبيى فى صيف ۲۰۱۲، بأن ما أشاهده قد عشته أو رأيته من قبل. تذكرت ’المسيرات المليونية‘خلال الفترة الإنتقالية بمدعاة دعم القوات المسلحة، والحشود والتظاهرات لحاملى المصاحف إستجداءﹰ للعواطف الدينية ولإرهاب وإضعاف حكومة المهدى فى عهد الديموقراطية الثالثة ، ثم تحويل الحرب الأهلية فى الجنوب الى جهاد دينى،مع تخويف وتخوين الخصوم والمعارضين. تذكرت أيضا أنه، تبعا لهذا المنهج، فقد تم اتهامى فى منشورات الجماعة بالشيوعية فى الفترة الانتقالية ثم تم ترفيعى فى صحفهم لعميل بوكالة الاستخبارات الامريكية خلال فترة الديمقراطية الثالثة. ولم أدم طويلا فى تلك المنزلة الرفيعة من العمالة المزدوجة ففى أواخر العهد الديمقراطى قامت صحيفة ’ألوان‘ بتنزيلى، ضمن مجموعة من الزملاء، الى مرتبة ’الطابور الخامس‘ فى الخرطوم للحركة الشعبية لتحرير السودان. كان أحد ردودى على تهجمهم علىﱠ حينذاك هو هذا المقال الذى نشر وقتها بالعربية (صحيفة ’الخرطوم‘) والأنجليزية (سودان تايمز) فى ديسمبر ۱۹۸٧ والذى تمت إعادة نشره فى حريات سودان فى ۱۱ يونيو ۲۰۱۲ مؤازرةً لكل من طُعِن فى وطنيتهم، خاصة بعد أحداث هيجليج الأخيرة.

 

صحيفة حريات ۱۱ يونيو ۲۰۱۲

 

الطابور الخامس

 

لابد أن بعضهم قد خّبـٙر عنى لدّى السلطات فمن غير أن أرتكب أية جريمة وجدت نفسى متهماﹰ بأننى ’طابور خامس‘. وفى البداية لم أعر الأمر أى اهتمام لأننى ببساطة كنت أجهل ماذا يعنى مصطلح ’الطابور الخامس‘ على وجه التحديد وإن ارتبط فى ذهنى باللألعاب الاولمبية لسبب غامض لا أجد له تفسيراﹰ الأن. وقد صرفت الموضوع برمته بحسبان أنه لا يخرج عن نطاق الإرهاب السياسى والتشهير الشخصى الذى أدمنت ممارسته بعض الجماعات والصحف التابعة لها. ثم أنه لم يكن من داعٕ لأن يسبب الإتهام قلقاﹰ لى فهناك العديد من الشخصيات التى تورطت فعلياﹰ فى أعمال غير قانونية خلال حقبة السلطنة المايوية فأبدعوا كمستشارين فى صياغة التشريعات ’البيعية‘ وتجلت عبقريتهم كاقتصاديين فى المضاربات ’التعاملية‘. لم يحدث لأحد منهم أى مكروه بل أنهم بعد إنقراض عهد الإمامة تصدوا للعمل السياسى ثم تصدروه. لماذا إذن اقلق لمجرد أن بعضهم قد قرر إتهامى بأننى ’طابور خامس‘؟ ومما زاد من إطمئنانى إقتناعى التام أن الجماعة التى خّبَرت عنى تدعى زورﴽ إحتكار الوطنية، الدنيوية منها والدينية، و تتعامل مع كل شخص يخالفها الرﺃى على أنه مارق وملحد وعميل وطابور خامس الى آخر المصطلحات التى أدخلوها فى قاموس السياسة السودانية. كنت على يقين أن أحدﴽ لن يصدق إتهاماتهم المفترية خصوصاﹰ إﺫا نظر المرء الى سِجل ماضيهم السياسى الُمعِيب.

 

ولكن يبدو أننى فى هذا الشأن قد أخطأت التقدير فلم أكن أدرى أنهم طورا لحد الإتقان النظرية الهتلربة التى تقول أنك إذا رددت الكذبة مرارﴽ وتكراراﹰ فسيصدقها الناس فى آخر الأمر. وبالتالى فإن قناعاتى الساذجة بحقيقة براءتى سرعان ما بدأت تتضاءل بدرجة متوازنة لردود الفعل لإتهامى. اول ما اكتشفت هذه الحقيقة المرة كانت عندما حضر احد اصدقائى المقربين ليعلن أنه يتبرأ من صداقتى و يعلق وهو يهز رأسه بآسى أنه خلال الحرب الأهلية الأسبانية كان يتم إعدام المنتمين للطابور الخامس رمياﹰ بالرصاص. والحقيقة أننى لم افهم وجه المقارنة بين الإتهام الموجه لى والممارسات التى تمت خلال الحرب الأهلية بأسبانيا فى الثلاثينات، فأنا لم احارب فى صفوف الجمهوريين (الاسبان وليس السودانيين) وقطعاﹰ لم تكن لى صلة بجماعة الفاشية (الاسبانية أو السودانية). ثم أن ربط إتهامى بما حدث فى الثلاثينات لا معنى له فوقتئذ لم أكن حتى مجرد خاطر فى ذهن والدﱠى.

  Read more

خذونى لزعيمكم

نشر هذا المقال الذى تقمص فيه الكاتب شخصية رئيس الوزراء الصادق المهدى أصلا بالانجليزية فى (سودان تايمز) وقام الكاتب بترجمته للعربية ونشر فى صحيفة (الأيام) قبل أيام من الإنقلاب العسكرى الذى قادته الجبهة الإسلامية القومية.

 

الأيام ۲٤ يونيو ۱۹۸۹

 

خذونى لزعيمكم

 

تملكنى شعور بالإستياء الممزوج بالعكننة والنرفزة عندما قرأت قبل فترة إفتتاحية لصحيفة (النيويورك تايمز) جاء فيها أنه لو وصل للإرض زائر من كوكب المريخ وقال “خذونى لزعيمكم” فسوف يتم أخذه على الفور للكرملين لمقابلة الرفيق ميخائيل جورباتشوف. وكنت على قناعة تامة بان أى شخص يزن الأمور بحنكة ومعرفة سيفهم الدعاوى المنطقية لاستيائى. فقد كان واضحاﹰ أن تلك الافتتاحية المفترية تعكس عدم فهم الأمريكان بما يدور فى عالمنا وتفضح جهلهم المطلق بالمقومات والركائز الأساسية لما يشكل دور الزعامة السياسية. وحتى صحيفة (برافدا) السوفيتية لن تبلغ بها الصفاقة لتقترح مثل هذا الإدعاء السخيف أو أن تحاول المجاملة تلميحاﹰ بأهمية أخذ زائر المريخ لمقابلة الرئيس جورج بوش. فأى مراقب متمرس فى السياسة الدولية يعلم جيداﹰ أنه لو هبط زائر من كوكب آخر وقال “خذونى لزعيكم” فسأكون أنا أول من يستحق شرف مقابلتى.

 

هذا لا يعنى بالطبع التقليل من شأن ومكانة الرفيق ميخائيل جورباتشوف كما ليس عندى أى حساسية شخصية تجاهه. بالعكس تماما فأنا أول من يعترف بأنه زعيم محبوب وموهوب، فمظاهرات الطلاب فى الصين تهتف بإسمه وزعماء العالم يتكالبون للنظر لطلعته البهية ويبدو أنه حتى مارجريت ثاتشر قد أضحت متيمة به وهى تدخل فترة مراهقة ما بعد الخمسين!

  Read more

حكاية الهوية المتبادلة

كانت السلطات المصرية قد رفضت أن تسمح للكاتب بالإقامة فى مصر إثر عرض تلقاه للتدريس فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة وفى نفس الوقت كانت العلاقات السودانية-المصربة قد ساءت نسبة لرفض مصر تسليم الرئيس المخلوع جعفر نميرى للسودان، ووسط شائعات حول تآمر مصرى لإعادته للسلطة.

 

صحيفة “الأيام” بتاريخ ۱۱ نوفمبر۱۹۸۸

 

حكاية الهوية المتبادلة

 

كنت جالساﹰ فى بهو الفندق الكبير أرتشف كوباﹰ من الليمون البارد عندما لمحت وزير شئونى الخاصة وحافظ أسرارى الذى عرفه الناس خلال ولايتى الحميدة باسم “السيد عشرة فى المية” (Mr. Ten Percent). أمعنت النظر فوجدته كعادته فى منتهى الأناقة يرتدى بدلة (بارسية) المظهر والمصدر. للحظة تملكتنى الدهشة فماذا يفعل (تن بيرسنت) فى الفندق الكبير فى حين يُفترض أن يكون نزيلاﹰ فى سجن كوبر؟ ولكنى خمنت أنه خرج من السجن فى احدى جولاته الليلية لحضور مناسبة اجتماعية للاحتفال والابتهاج على أنغام أغنية (يجوا عائدين). وقبل أن أفكر فى مغبة تصرفى وجدت نفسى أصيح به تلقائياﹰ: “تن بيرسنت، تعال هنا!”. كان تصرفاﹰ غير حكيم من جانبى فقد كان من الممكن أن يكشف هويتى الحقيقية. تلفتُ حولى وشعرت بالإرتياح أن أحداﹰ لم يعر صيحتى اهتماماﹰ إلا (تن بيرسنت) فقد نظر فى أتجاهى وظلال من الدهشة والإنزعاج ترتسم على وجهه. وبدأ يتحرك نحوى بمشيته الخيلاء وعندما وقف أمامى قال بنبرة هادئة يتدفق منها الاحتقار:”اسمع يا زول، أنا لا أتعامل مع أساتذة الجامعة المفلسين من أمثالك”.

  Read more

العميل المزدوج

دأبت صحافة الجبهة الإسلامية وخاصة صحيفة (ألوان) على أتهام عددا من الشخصيات الأكاديمية، بينهم كاتب المقال، بالشيوعية (وصفته منشوراتهم خلال الفترة الإنتقالية “بالوزير الأحمر”). ثم تمت ترقيته أثناء فترة الديمقراطية الثالثة إلى عميل للمخابرات الأمريكية وأراد الكاتب فى هذا المقال الساخر أن يبرهن على صحة هذا التناقض بإتهام نفسه بالعمالة المزدوجة!

 

الأيام ٤ أغسطس ۱۹۸۸

 

العميل المزدوج

 

كان الوقت قرابة الثالثة صباحاﹰ عندما صحوت مرتاعاﹰ على رنين جرس التلفون المتواصل. ولعل مصدر إنزعاجى أن تلفون منزلى قد همدت حرارته منذ سنوات وقد تأكدت بنفسى أن الروح قد فارقته عندما قمت فى لحظة غضب بنزع أسلاكه وبركل الجهاز الى ركن قصى. فلا أحد يستطيع إذن أن يلومنى إن توهمت لفترة بأننى أحلم. نظرت حولى وأنا أدعك عينييّ وتيقنت أن ما يحدث هو الواقع الحقيقى وليس أضغاث احلام. فالتلفون المنزوع الأسلاك يرن فعلاﹰ وبإصرار غريب. رفعت السماعة أو بالأحرى ما تبقى منها وجاءنى صوت عاملة الهاتف يسأل إن كنت على إستعداد لتلقى محادثة دولية على أن أتعهد بدفع قيمتها محلياﹰ. زاد إندهاشى فالأمر لم يعد يخص شأن هاتفى الذى أصبح يعمل لاسلكياﹰ بل شمل أيضاﹰ هذا التطور المفاجئ فى الخدمات الهاتفية بحيث أصبحنا نتعامل بين ليلة وضحاها بنظام الدفع المحلى (collect call) للمحادثات الدولية كما يحدث فى كل أنحاء العالم المتحضر!

  Read more

التفويض

يسخر المقال من الوضع السياسى فى ذلك الوقت الذى إتسم بالمناورات الحزبية والأزمات السياسية بين زعماء الأحزاب الرئيسية (الصادق المهدى رئيس الوزراء وزعيم حزب الأمة، ومحمد عثمان الميرغنى راعى الحزب الإتحادى الديمقراطى والشريك الأصغر فى حكومة الصادق الائتلافية، وحسن الترابى زعيم الجبهة الإسلامية القومية وصهر الصادق المهدى). وكانت الحكومة الائتلافية ضعيفة لدرجة الشلل وطالب الصادق المهدى وقتها بإعطائه تفويضا جديدا لتقوية موقفه السياسى بينما سعت الجبهة الإسلامية لتفكيك الائتلاف القائم وإثارة مناخ من عدم الإستقرار.

 

الايام ٤ أبريل ۱۹۸۸

 

التفويض

 

لابد أن عطباﹰ خطيراﹰ قد أصاب “تفويضى” فقد توقف فجأة وبدون سبب واضح عن العمل. وقمت بفحص كل الأسلاك والتوصيلات الكهربائية ووجدتها على ما يرام. وكان فى تصورى أن بإمكانى إصلاح العطب كما حدث عندما أصاب “التفويض” خلل مرتين. قمت بفحص “التفويض” مرة أخرى بعناية وتأنى مستعيناﹰ بالرسوم التوضيحية فى مرشد الإستعمال الخاص بالتفويض ولكن وبعد جهد مُضن لم أتمكن من إصلاح “التفويض” الذى ظل قابعاﹰ فى مكتبى وعيونه الاكترونية تحدق فىّ شذراﹰ. وفى النهاية قررت الإتصال بمدير “المؤسسة الإتحدية للإعمال الديمقراطية العاجزة” وهو الشريك الأصغر فى شركة أعمالى الإئتلافية للتوجهات الإختلافية غير المحدودة” واستغرق الأمر منى بعض الوقت قبل أن أتمكن من الاتصال به هاتفيا.
قلت له وأنا أحاول أن أخفف من وقع المشكلة: “هالو عزيزى (ميمى)، أننى آسف لإزعاجك فى مثل هذا الوقت ولكن يبدو أن هناك مشكلة بسيطة تتعلق (بتفويضى)”.

 

ومضت فترة خلتها دهراﹰ قبل أن يرد (ميمى) قائلاﹰ فى لهجة حادة: “أتقصد أن تقول (تفويضنا)؟”

 

Read more

المجانين

نشرهذا المقال اصلا بالانجليزية فى صحيفة (سودان تايمز) وقام الكاتب بترجمته (للأيام) وفيه إستعراض للأحداث السياسية فى ذلك الوقت وفى النسخة الانجليزية تتشابه كلمة (the Maddies) “المجانين” مع الترجمة الإنجليزية لكلمة “المهديون” (the Mahdis). ويود الكانب أن ينوه بأن الأحداث والشخصيات الواردة فيه ليست بالضرورة من نسج الخيال!!

 

الأيام ٦ يناير ۱۹۸۸م

 

 

المجانين

 

جميل منك أن تتجشم مشاق السفر و تأتى من بلادك البعيدة لإجراء هذا اللقاء الصحفى معى. دعنا نجلس تحت الظل فى الحديقة. هل تجد الطقس حاراﹰ عندنا؟ انك محق تماما ففى بلادكم توجد مناطق ذات طقس مشابه كولاية (اريزونا) التى سبق لى أن زرتها. هل لى أن أقدم لك كوباﹰ من الشاى الساخن؟ أتقول بدون سكر؟ يبدو أنك حضرت وقد وقنت نفسك على مشاركتنا المعاناة المعيشية. ماذا؟ أتشرب الشاى عادة بلا سكر حتى فى بلادك؟ انها بالطبع عادة حميدة – على الأقل معيشياﹰ- ولكنى لم أكن أعلم أنكم تعانون مثلنا من شح السكر وغلائه..هل أملى صندوق النقد الدولى عليكم أيضاﹰ شروطه المجحفة برفع الدعم؟ لقد كنت أعتقد أن هذا “النكد” اللعين تحت أمرتكم ورهن اشارتكم! عفوا أقصد “الصندوق” وليس السكر. ماذا تقول؟ انك لا تملك سيارة ولا تحتاج لشراء الوقود؟ انه لأمر مدهش حقاﹰ ولو كنت أيضاﹰ لا تأكل الخبز واللحوم ولا تحتاج للصابون والزيت والكبريت والكهرباء والماء ومثل هذه الكماليات لطاب لك المقام فى بلادنا والعيش كالملك فى ربوعها. ولكنك قطعاﹰ لن تكون الملك الوحيد فيها!

 

Read more

Back to Top