Mohamed Beshir Hamid

ما بين ألبٙير كامُو وكمال داوود : قراءة نقدية مقارنة

(الغريب) ما بين ألبٙير كامُو وكمال داوود:

قراءة نقدية مقارنة

 

 محمد بشير حامد*

 

تقديم:

نُشرت قبل عامين فى الجزائر رواية بعنوان “مورسو: تحقيق مضاد”Mersault, contre-enquête) ) للكاتب الجزائرى كمال داوود وأعيد نشرها فى فرنسا العام الماضى وترجمت لعدة لغات ليس من بينها اللغة العربية حتى الآن. (ويبدو لى–وقد أكون مخطئاً–أن السبب هو تخوف دور النشر العربية من ترجمة ونشر الرواية بعد أن دعا شيخ سلفى فى الجزائر باهدار دم المؤلف وقتله علانية “لتطاوله” فيها على الاسلام وبالطبع لعمالته للغرب وللصهيونية العالمية). أثارت الرواية زوبعة فى الوسط الأدبى فى فرنسا والجزائر حيث فازت بعدد من أرقى الجوائز الأدبية وكانت ضمن القائمة النهائية المرشحة لجائزة “غونكور”(Prix Goncourt) الشهيرة للآداب فى فرنسا. والمثير حقا هو نجاح كمال داوود فى روايته الأولى وهى تتخذ توأمة مساقها الفنى مع رواية “الغريب” (l’Étranger) لعملاق الأدب الفرنسى ألبير كامو (Albert Camus). ففى “الغريب” التى صدرت فى عام ١٩٤٢ ولا تزال ليومنا هذا معلما بارزاً فى الأدب العالمى، يقوم مورسو ((Meursault بطل الرواية وراويها بقتل جزائري لا نعرف عنه سوى هويته المُعرّفة “بالعربى” (l’Arabe) التى وصفها به كامو أو بالأحرى مورسو الراوى. وفى (تحقيقه المضاد) يقوم كمال داوود فى جرأة أدبية لا تتأتى عادة إلا عن ثقة متناهية بالنفس، ليس فقط بإعادة سرد رواية (الغريب) من منظور معاكس ومكمل فى آن بل بجعل الجزائر نفسها أكثر من مجرد البيئة التى اتخذها كامو ديكوراً مسرحياً لا غير لروايته. ويبدأ بإعطاء العربى القتيل اسما (موسى) ويجعل من بطل روايته وراويها (هارون) الشقيق الأصغر له والذى يقضى سنوات عمره مدفوعاً من قبل والدته المفجوعة سعياً وراء الانتقام لابنها. وفى بداية (التحقيق المضاد) يبدو وكأنه ادانة واضحة للأُسطورة التى جعلها كامو تحيط بقصة مورسو بجعله قاتلا وضحية فى وقت واحد بينما ترك (العربى) القتيل صفرا بلا اسم يُنادى به ولا صوت يُسمع له. ولكن عندما نضع الكتاب جانبا نشعر بأن هناك أكثر من ضحية وأكثر من قاتل وربما انتظم بلداً بأكمله.

 

الخلفية: مابين كامو والرواية

أذكر أثناء دراستى الجامعية كان مقرراً علينا فى منهج الأدب الفرنسى دراسة رواية “الطاعون” (La Peste) وهى رواية أخرى لألبٙير كامُو تدور أحداثها فى مدينة وهران الجزائرية فى أواخر أربعينيات القرن العشرين وتتحدث عن وباء الطاعون الذى ضرب المدينة، وكيف تعامل السكان مع المآسى التى سببها والشعور بالعزلة والفُرْقة والخوف التى نجمت عن الحجر الصحى للمدينة وعزلها عن العالم الخارجى. ففى حين انخرط غالبية السكان فى مقاومة الوباء أو فى علاج أو مُواساة أو دفن ضحاياه أو مجرد محاولة التعايش معه انشغل البعض فى محاولات الهرب من الحصار المضروب حول المدينة أو الاستفادة من تهريب البضائع والبشر والظروف الٳستثنائية التى خلقها.

 

وأذكر أن من الأمور التى لفتت انتباهى وانا أقرأ الرواية لأول مرة أن كل الشخصيات فيها من المستوطنين الفرنسيين بل أن أحداثها تدور فى غياب تام للسكان الوطنيين حتى فى أدوار هامشية وكأن مدينة وهران لايسكنها جزائريون عرباً كانوا أو بربراً أو حتى مُولّٙدين. ولا أذكر على وجه التحقيق لم أثار فكري هذا الغياب التام للجزائرين في مشاهد الرواية وظل يلقي بظلاله عليّ والفكرة تروح وتجئ فى ذهنى ولكنها بالتأكيد قد شغلت تفكيرى للحد الذى جعلنى أسعى جاهداً لتفسيرها. كان أحد هذه التفسيرات هو رمزية الرواية نفسها فهى فوق كونها عملاً أدبياً رفيعاً فى حد ذاته فهى تمثل أيضاً تصوراً فلسفياً لصراع البشرية الدائم ضد قوى الشر وما يعكسه ذلك أحياناً من عبثية الوجود كما يراها كامو. وعلى مستوى أدق تحديداْ وأكثر تعقيداً ترمز الرواية للغزو النازى لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وما خلقه من انشقاق داخل فرنسا بين المتعاونين مع الاحتلال الألمانى والمقاومين له والذى ترك شرخاً مجتمعياً لم يندمل تماما بتحرير فرنسا قبيل نهاية الحرب. ولكن هذه الرمزية مع وجاهتها الأدبية وتوافقها مع مجريات أحداث الرواية لم تعطنى تفسيراً مُقنعاً لتغييب الوجود الجزائرى والذى لم أجد فى إمكانية حضوره تعارضاً أو تناقضاً مع المستويات المختلفة التى يمكن بها قراءة رمزية تلك الأحداث.

 

ثم أكتشفت بعد التقصى والبحث تفسيراً يبدو بسيطاً وإن لم يخلُ من تعقيدات أخرى تخص بشكل مباشر شخصية المؤلف أكثر من مضمون رسالته الأدبية. فقد ولد ألبٙير كامُو فى بلدة موندوفى (الذرعان حالياً) فى الجزائر فى نوفمبر ١٩١٣ وكان فرنسى الجنسية جزائرى المولد من غير أى حساس بالتناقض أو الغربة على أى جانب من البحر المتوسط كان حضوره، فمدينة وهران بالنسبة له “ليست أكثر من محافظة فرنسية على الساحل الجزائرى” (‘rien de plus qu’une préfecture française de la côte algérienne’) لا تختلف فى نظره عن مارسليا أو باريس. فلا غرو أن نظر إلى الجزائر ومدنها التى أحبها من منظار المستوطن الفرنسى. والتناقض هنا أن كامو الحائز على جائزة نوبل للآداب والذى حارب الاحتلال الألمانى وكان من فلاسفة اليسار الفرنسى فى فترة ما بعد الحرب العالمية وعارض عقوبة الإعدام منطلقا من مبدأ عدم إنسانيتها حتى لمن تعاونوا مع الغزاة النازيين وأنتقد إنتهاكات حقوق الانسان فى الإتحاد السوفيتى، ورغم كل قناعاته العقائدية والإنسانية والفلسفية لم يؤيد استقلال الجزائر كما فعل العديد من أركان الحركة الثقافية فى فرنسا مثل جون بول سارتر وسيمون دو بوفوار وفرانز فانون وريمون آرون. فقد اتخذ كامو موقفاً اتسم على أقل تقدير بالازدواجية ٳن لم يكن بالتناقض أراد به الحرية لشعب الجزائر على شرط أن تبقى الجزائر فرنسية. وتسبب هذا الموقف فى قطيعة بينه وبين معاصريه وأصدقائه فى اليسار وعداء اليمين الفرنسى الذى رفض دعوته للهدنة ولم يقبل رؤيته لتحالف (متوسطى) أو أى حديث عن الحرية والعدالة والمساواة.

 

هل كان حب كامو للجزائر، والذى لا جدال حوله، هو جزء من قناعته أو التزامه القائم على أن الجزائر امتداد حتمى لفرنسا عبر البحر المتوسط؟ هذا سؤال مثير للجدل بلا شك وقد لا يسمح المجال هنا بالتعرض للجوانب العديدة والمختلفة فى الإجابة عنه ويمكن القول فيما يخص هذه الدراسة أن كامو كان كاتبا ذا نزعة إنسانية ولكنه لم يختر العدالة للجزائر (“رجل أخلاقى فى موقف غير أخلاقى” كما وصفه إدوارد سعيد) فهو من جانب قد عارض سياسات فرنسا (الكولونيالية) فى الجزائر ولكن من جانب آخر كان حبه وتعلقه بالجزائر من منطلق وتفهم استيطانى والذى ربما إنعكس فى أعماله الفنية التى كان مسرحها هناك، وقد يكون أهتمامه قد أنحصر فى التركيز على الحبكة الفنية فى رواياته من منظور فرنسى من غير مجرد التفكير فى خلق أى توازن عِرقىّ – مما يمكن وصفه بتعبير اليوم “فقدان الحساسية السياسية” (politically incorrect). هذا التناقض الذى ربما وصل مرحلة التمزق الداخلى فى نفسية كامو بدا واضحا فى سنواته الأخيرة حين حاول تبرير موقفه من إدانة العنف أيا كان مرتكبوه فى كتابه “سجلات جزائرية” (Chroniques algériennes) الذى أصدره فى عام ١٩٥٨ وهو مجموعة من المقالات التى كتبها منذ أواخر الثلاثينيات وتتضمن نقده الحاد لبعض السياسات الاستعمارية فى الجزائر وتفهمه للظلم والاستغلال الذى حاق بالجزائريين والذى لم يجد فيه مع ذلك مبرراً لحملهم السلاح واستعمال العنف ضد المُستٙعمِر. ويمكن تفسير موقف كامو المعارض لاستقلال الجزائر ان من أسبابه خوفه على الجزائر بلا فرنسا أكثر من خوفه على فرنسا بلا جزائر باعتبار أن الانفصال ستكون له تداعيات قاتلة على مستقبل الجزائر (كان تخوفه وقتها من تغول وهيمنة مصر الناصرية على المغرب العربى وقد نجد فى أحداث الجزائر الدامية فى “العشرية السوداء” لتسعينيات القرن الماضى، والتى لا تزال تلقى بظلالها القاتمة على جزائراليوم، ما يبرر مخاوف كامو من مثل هذه التداعيات وإن كان مصدرها فى هذه الحالة داخلى ومختلف تماما!). لم يلق كتاب “سجلات جزائرية” أهتماماً كبيراً ولم يُقنع أو يُسكِت ناقديه مما جعله يشعر بالاحباط والألم للحرب الدائرة فى الجزائر وأعلن أنه أدلى بدلوه وليس لديه المزيد. وفى السنوات الأخيرة قبل وفاته المبكرة فى يناير ١٩٦٠ فى حادث سيارة التزم كامو الصمت حيال المسألة الجزائرية والتى حُسم فيها الأمر بتوقيع اتفاقية (ايفيان) فى مارس ١٩٦٢.

 

(غريب) ألبير كامو:

ولعل ظاهرة الصمت هذه التى التزم بها كامو فى أُخريات أيامه تفسر لحد كبير صمته عن وجود الانسان الجزائرى فى رواياته التى تدور أحداثها فى الجزائر والتى لا تخلو – للمفارقة – من تغنى بالطبيعة فى الجزائر من أمواج البحر ووهج الشمس وصفاء السماء ورمال الشاطىء والتى تلعب أحياناً أدواراً هامة فى سياق أحداث الرواية. وقد يبدو ذلك الصمت مدوياً فى روايتة الأولى (الغريب) وذلك لمفارقة أخرى فالرواية بها كما ذكرنا شخصية جزائرية كل ما يحدد هوية صاحبها هو الإشارة إلى أصله (العربى) والذى يميزه عن باقى شخصيات الرواية والذين لا يحتاج المؤلف لتعريف أصلهم (الفرنسى) أو لتذكيرنا به وكأنهم الأصل و(العربى) هو الدخيل. الدورالوحيد، وإن كان اساسياً فى مساق الأحداث، الذى يلعبه هذا (العربى) هو أن يحضر إلى شاطئ البحر فى مدينة الجزائر للانتقام لشرفه من قٙواد فرنسى أهان شقيقته العاهرة! ويلتقى مصادفة ببطل القصة وراويها (مورسو) صديق القٙواد، وفى مواجهة عبثية تؤدى فيها قوى الطبيعة دوراً أساسياً يقوم مورسو باطلاق النارعلى (العربى) ويرديه قتيلا من غير دافع أو سبب سوى أن حرارة الشمس أعمت عينيه: “السماء بدت وكأنها أنشقت لتمطر ناراً…وكأن هذا الوميض الملتهب قد أحرق أهدابى ليطعن عينيىّٙ فشعرت بكيانى كله يتوتر وضغطٙت يدى على زناد المسدس”.

 

شخصية القتيل هذه هى التى ينتزعها كمال داوود انتزاعاً من رواية كامو ليعطيها اسم موسى فى حبكة فنية يحكى فيها “قصة هذه القصة” (‘l’histoire de cette histoire’) التى يلوم كامو على تجاهلها. ويتنقل داوود بين أحداث الروايتين فى حوار آحادى – إن صح هذا التعبير – يقف فى جانب واحد منه الراوى والمؤلف هارون/داوود ويقف فى الجانب الآخر الصامت منه فى هذه المعالجة الدرامية الراوى والمؤلف الآخر مورسو/كامو.

 

فى الجزء الأول من (غريب) كامو نشعر بأن شخصية الراوى مورسو مبنية على الكثير من السلبيات فهو شخص يعيش داخل ذاته منطوياً لامبالياً وهو لا يستطيع أن يشغل نفسه بأى شئ لا يثير اهتمامه وهو شعور أقرب إلى عدم المقدرة على التداخل والتعامل الإجتماعي منه إلى الأنانية أو حب الذات. ثم أنه يبدو وكأنه يعانى فتوراً عاطفياً ينعكس بدوره فى نوع من التكاسل البدنى أو قد يكون العكس أقرب إلى الحقيقة فهو يرى أن حاجاته الجسدية كثيراً ما تطغى على مشاعره العاطفية فهو لم يبكِ عند وفاة والدته لانه لم يشعر بحاجة أو برغبة فى البكاء فمنذ ذهابها لدار العجزة أنعزلت عن عالمه المباشر ولم يعد هناك الكثير من التواصل بينهما. ثم إن الموت ليس مفاجئاً أو غريباً لمن هم فى عمرها، وهو لا يستطيع أن يفهم لماذا لا يفهم الآخرون هذه الأشياء التى يراها طبيعية. وبالنسبة له فإن الخيار فى فعل الشىء أو عدم فعله يبدو واضحاً من غير تعقيد، فبصراحة قاسية يخبر صديقته مارى التى يستمتع بصحبتها بأنه لا يحبها ولكنه على استعداد للزواج منها اذا كانت تلك رغبتها، فالأمر عنده سيان.

 

ويمكن أن نضيف لمظاهر الفتور العاطفى والكسل الجسدى نوعا من تبلد الاحساس الذى يخفق أحيانا فى الاستجابة لنداء العقل أو وخز الضمير لنتفهم الأبعاد الحقيقية وراء مأساة مورسو. ففى المكان الأول كان فى استطاعته أن ينهى المواجهة مع (العربى) فى الشاطىء بأن يعود على أعقابه ولكنه لم يفعل لأنه شعر”بثِقل الشاطىء كله على كتفيه”. ونجد فى تواطؤ مورسو مع جاره ريمون القٙواد فى استدراج احدى فتياته (شقيقة العربى) للاعتداء عليها، ثم موافقته بأن يشهد زورا لصالح ريمون عند الشرطة، تصرفات تُنبىء عن غياب الفطنة وحسن الادراك. ولكن مورسو بدافع من الكسل وعدم الاكتراث لا يرى سبباً لعدم فعل ذلك لمساعدة ريمون الذى لا تجمعه به غير علاقة هامشيه. وبهذه السلبية التى لا دافع عقلانى أو مبرر أخلاقى لها يبدأ مسلسل الأحداث الذى يقود كقدر محتوم إلى شاطىء البحر والرصاصات الخمس التى أطلقها على (العربى) ودوّٙت “كطرْقات متسارعة على باب التعاسة”. وعندما يسأله المتحرى لماذا استمر فى اطلاق النار على جسد مسجىً، لا يستطيع مورسو الاجابة وما يخطر فى ذهنه هو شعوره بالشمس المحرقة على جبينه وكأن الطبيعة لا تزال تتحكم فى حواسه وأحاسيسه. وعندما يسأله اذا كان نادما على جريمته يجيب بأنه يشعر “بنوع من الضيق أكثر من الندم”. وفى جهل مريع ليس فقط بمجريات الأمور فى العالم حوله بل أيضاً بجدية وخطورة الجريمة التى أرتكبها تصيبه الدهشة عندما يعرف أن المحكمة ستُعين محاميا للدفاع عنه. ففى مفهومه أن الأمر لم يكن يستدعى كل هذا العناء لأنه يرى أن قضيته “فى غاية البساطة”.

 

فى الجزء الثانى من الرواية تبدأ ملامح التحول فى شخصية مورسو فى الظهور أو بالأحرى ملامح التغيّر فى نظر القارئ لشخصيته وهى عملية تدريجية يجعلها الٳبداع الفنى لكامو تتم بطريقة تكاد تكون غير محسوسة، فنجد أنفسنا نعيد تقييم الخصال السلبية والمٙعيبة فى شخصية مورسو لنكتشف أن لها جوانب ٳيجابية مشرّفة لم ننتبه لها من قبل. يبدو هذا التحول فى أذهاننا بعد اعتقاله ولعل فقدانه للحرية فى حد ذاته يفتح له باباً صغيراً من تعاطفنا. ومن المفارقة أن ادراكه لابعاد جريمته (“تذكرت أنى قد قتلت رجلاً”) يتزامن مع اصراره على أن يكون صادقاً مع نفسه رغم ما قد يسببه له ذلك من متاعب فى المأزق الذى وضع نفسه فيه. فعندما يسأله محاميه اذا كان قد شعر بالحزن يوم وفاة والدته يجيب بانه غالباً ما يكون قد أحب أمه ولكن “من وقت لآخر يشعر كل الناس برغبتهم فى موت أحبتهم”. وعندما يسأله المتحرى اذا كان قد أحب أمه يجيب “نعم، مثل أى شخص آخر”. ثم يفقد أى تعاطف يمكن ان يتوقعه من قبل المتحرى الذى يخبره بأن حياته مبنية على قوة ايمانه ويلوح بصليب صغير فى وجهه طالبا منه أن يتوب الى الله قائلاً “هل تريد لحياتى أن تفقد معناها؟” فيجيبه مورسو فى صدق ولكن من غير داعٍ مُلِح بأنه لا يشاركه ذلك الايمان.

 

يشكل هذا الاصرار على الصدق رغم عواقبه الوخيمة أرضية أخلاقية جديدة فى ذهن القارئ فيبدو مورسو رجلا تحكمه عدة مبادئ لعل أهمها أنه فى التعبير عما فى دواخله لا تهمه آراء الأخرين وأن ما يبدو عليه من مظاهر فقدان الحساسية (l’insensibilité) فى التعامل معهم ينبع أساساً من التزامه الأخلاقى بقول الحقيقة. والٳنطباع العام الذى يعطيه بالتباعد عن الناس والأحداث قد يكون مردُّه عدم رغبته فى أن يضطر للحكم عليهم سلباً أو ايجاباً. ثم أنه لا يعانى حقيقة من الخواء الروحى والإجتماعى فمقدرته الفائقة فى التفاعل مع الطبيعة لا تغذى عواطفه وتهيمن على فكره فحسب بل تعينه أيضاً على التكيف مع أى وضع يجد نفسه فيه. فهو فى أيام حريته يستمتع بالسباحة فى البحرمع مارى ويتمتع بالمناظر من شرفة شقته. وفى شهوره الأولى فى السجن كان “التفكير كرجل طليق” (‘des pensées d’homme libre’) من أصعب الأمور عليه: “فمثلاً كانت تنتابنى الرغبة فى النزول للبحر وأنا أتخيل صوت الامواج تحت قدمىّ والماء ينزلق على جسدى والشعور بالراحة يغمرنى وفجأة أشعر كم هى متقاربة جدران سجنى وبعدها لم تعد لدىّ سوى أفكار السجين”.

 

ولعله ليس غريباً أن أفكاره كسجين تحنّ للطبيعة وتجد ملاذاً فيها فيقول أنه فكر كثيراً فى أنهم لو تركوه يعيش فى جذع شجرة من غير أن يكون لديه ما يشغله سوى النظر إلى السماء لأمكٙنٙه التعود على ذلك شيئاً فشيئاً. فقد كان سينتظر “عبور الطيور أو ارتحال السحاب” كما كان ينتظربصبرنافذ فى عالم آخر، يوم السبت ليضم جسد مارى بين ذراعيه. هذا التمازج بين الروح والجسد يجعل من السهل الاستجابة إلى متع الحياة البسيطة والاستمتاع الكامل بها من غير التقيد بما يضعه المجتمع من أعراف وتقاليد. وهو لا يستطيع فى البداية أن يفهم عندما صادروا سجائره لماذا يحرمونه من شئ لا يسبب سوءً لأحد ٳلا أن السجان يشرح له أن ذلك كان جزءً من العقاب ولكنه بعد أيام من المعاناة يتخلص من التٙوْق الشديد ٳلى التدخين وعندها يقول وكأنه يعقب على عبثية القرار(أو ربما ميزته): “لم يعد العقاب عقاباً بالنسبة لى”.

 

هنا نبدأ التعرف بشكل أكثر وضوحاً على جانب آخر من شخصية مورسو يمكن أن نصفه – ربما لافتقاد تعبير أدق – (بوجودية تفكيره) والتى يشكل فيها ولعه بالطبيعة وشغفه بالحياة مرتكزاً أساسياً. وتقترن هذه الوجودية فى مفارقة فلسفية بحالة الانسان العبثية فى الوجود والتى تحكمها لاعقلانية الأشياء والأحداث. وتشكل محاكمة مورسو خلفية الابداع الفنى التى يربط فيها كامو رحلة مورسو المأسوية من المواجهة القاتلة على الشاطئ إلى المقصلة. فداخل المحكمة يشعر بأنه الغريب عن كل ما يدور من حوله فمحاميه يترافع فى قضيته بمعزل عنه وكأنها تخص شخصاً غيره وإفادات الشهود تحكى عن مشاعره عند وفاة أمه أكثر من ملابسات جريمته (“تحدثوا كثيرا عنى، وربما عنى أكثر من جريمتى”) مما يجعله يشعر بمدى بُغْض الناس له ويدرك للمرة الأولى أيضا حقيقة أنه “مذنب”. ولا يرى مورسو وهو يراقب هذه المهزلة القضائية أي فارق بين مرافعتٙى الدفاع والإتهام، فمحاميه يدافع عنه بحجة أنه “مذنب ولكن بتوضيحات” فى حين يعلن المدعى العام للمحلّفين أنه “مذنب من غير توضيحات” و كل ما يمكن توضيحه هو “أن المتهم فى اليوم التالى لوفاة أمه استمتع بالسباحة مع فتاة وبدأ معها علاقة حميمة وذهب لمشاهدة فيلم كوميدى”، مما يجعله متهماً بأنه “قد دفن أمه بقلب مجرم”. وهنا يتدخل محاميه ليتساءل بغضب اذا كان موكله متهما بدفن أمه أم لقتله رجلا؟ (‘est-il accusé d’avoir enterré sa mère ou d’avoir tué un homme?’). وهو تساؤل لا ٙيثير إلا الضحك فى الحضور داخل قاعة المحكمة رغم أهميته القصوى.

 

والقارئ لرواية كامو بتمعن لا يمكنه إلا أن يتوقف عند هذا التساؤل ويأخذه لنهايته المنطقية بتساؤل آخر: لماذا تمت إدانه مورسو بقرائن ظرفية وعاطفية (مشاعره حيال موت أمه) وليس بالقرائن الدامغة لقتله (العربى) عن تٙعٙمُّدٍ وسٙبْق إصْرار. وبما أن حكم الاعدام قد يكون وارداً أيضاً فى هذه الحالة وحدها من دون إفادات تتعلق بمشاعره فان الحكم الذى انتهت اليه المحكمة بهذه القرائن يتوافق قانونياً فى نهاية الأمرمع العقوبة المتوقعة لجرائم القتل العمد وإن كان قد تم التوصل إليه لاسباب مختلفة وبطريقة خاطئة. ولعل كامو قد اختار هذه الطريقة لإدانة مورسو باسلوب حاذق وسلس لعدة أسباب يُمكن إستخلاصُها من البنية الفكرية والسياق الدرامى للرواية ككل. أولاً، ان التركيز على جريمة القتل كان سينقل مفهوم (الضحية) من القاتل مورسو إلى القتيل (العربى) مما يخل بالتوازن الدرامى للرواية وبالتركيبة المعقدة لشخصية مورسو التى بناها كامو بتدرج ليجعل القارئ يتعاطف معه ويشعر بأن ظلما قد حاق به. ثانياً، لعله كان من المهم من منطلق فلسفى ابراز عدم عدالة المحكمة أو بالأحرى زيف الأدلة التى تمت بها الإدانة للدلالة على استكشاف كامو لمفهوم الوجودية فى شخص مورسو وتصرفاته ومصيره. ويبدو هذا واضحاً فى مواجهة مورسو الغاضبة مع قسيس السجن عندما رفض بشدة مُواساة القسيس الدينية مؤكدا عبثية الاشياء: “ماذا يهم اذا أُتهم بالقتل أو أُعدم لانه لم يبكِ عند دفن أمه؟” وفى النهاية يستقبل مورسو نهايته بقلب مفتوح: “وللمرة الأولى إنفتحتُ على لامبالاة عالم حنون، واجدا إياه يشبهنى، أخويا ورفيقا فى آخر الأمر وأحسستُ بأنى كنت سعيداً وسأظل سعيداً ولكى يكتمل كل شئ ولا أشعر بالوحدة تحتوينى لم يتبق سوى أن يتواجد جمع غفير يوم اعدامى وان يستقبلونى بصيحات الكراهية”.

 

ثالثاً، قد ينطوى عدم التركيز على جريمة القتل على إعتراف ضمنى بعنصرية النظام القضائى الفرنسى فى ذلك الوقت خاصة فى المستعمرات بحيث يصعب محاكمة مستوطن فرنسى أو الحكم عليه بالإعدام لمجرد قتله مواطن جزائرى. ولكن لا يوجد تلميح لذلك فى الرواية بخلاف الاشارة لعدم كفاءة القضاء وليس عنصريته وإن كان تجاهل قضية (العربى) كشخص وكضحية، سواء فرضت ذلك الحبكة الفنية للرواية أو أفرزه عدم الحساسية من قبل كامو أو تضمنه انتقاده للقضاء الفرنسى عامة، يعد من محاسن الرواية من نظرة مختلفة تماما. فقد أعطتنا بعد مضى اكثر من سبعين عاما “التحقيق المضاد” لكمال داوود والذى يتناول قضية (العربى) من وجهة نظر جزائرية لا تنتقص من رواية كامو بل، فى مفارقة أدبية أخرى، تضيف إليها وتعيدنا لتأملها لنكتشف ما فات علينا فى قراءاتنا السابقة.

 

(غريب) كمال داوود:

ولد كمال داوود فى ١٧ يونيو ١٩٧٠ فى مدينة مستغانم وتشبع باللغة الفرنسية التي يكتب بها وعمل صحافيا فى “يومية وهران” (Quotidien d’Oran) وعُرف بمقالاته الجريئة التي ينتقد فيها النظام الجزائري خاصة الفساد الحكومى كما يتعرض فيها لقضايا خلافية تتعلق بالدين والثقافة والمجتمع فى الجزائر.

 

تتكشف لنا الرواية بتدرج داخل حانة بمدينة وهران فى منولوج يحادث فيه الراوى هارون كل ليلة شخصاً لا نعرف عنه إلا تلميحاً أنه دارس فرنسى جاء ليبحث عن الخلفية الحقيقية لقصة مورسو ويبدو فى هذا الاسلوب القصصى تأثر داوود برواية كامو “السقوط” (La Chute) والتى يحكى فيها الراوى المحامى داخل حانة فى أمستردام قصة سقوطه الأخلاقى. ما يحكيه داوود على لسان هارون قصة سقوط من نوع آخر أكثر تعقيداً عبر تاريخ ممتد طوال عمره ومشحون بالاحداث الشخصية والتاريخية من فجيعة الموت ووجيعة الفقد (“لم يتبق شئ من موسى حتى جثته”) ومذاق الانتقام المر (“أرٙدت التخلص من الظل الثقيل الذى حول حياتى إلى ظلام”) وحكم المستوطنين البغيض (“الذين أصابتهم السمنة من أكل محاصيلنا”) ونضال دموى من أجل استقلال يتمخض عنه فجر كاذب (“أضعنا الوقت فيه جريا حول أنفسنا”).

 

ويبدأ داوود بالتفاف حول جملة كامو الشهيرة التى افتتح بها رواية (الغريب): ” اليوم ماتت أمى، أو ربما بالامس” (‘Aujourd’hui, maman est morte. Ou peut-être hier’) فيقول فى توازن عكسى: “اليوم أمى ما تزال على قيد الحياة” (‘Aujourd’hui, M’ma est encore vivante’) ويجعل شخصية الأم منذ الوهلة الاولى رابطاً مهما بين الروايتين حيث تؤدى فى كل منهما دوراً اساسياً. ففى حالة مورسو فالإدانه التى أدت للحكم باعدامه جاءت من اتهامه بعدم المبالاة عند دفن أمه وكأنها تعاقبه من وراء القبر أو كأن المجتمع يعاقبه بالوكالة بعد موتها. أما بالنسبة لهارون فأمه كما يصفها تعرف كيف تجعل الاشباح تعيش، وكأرملة كانت “اكثر من زوجة رجل ميت فهى زوجة الموت ذاته “، وكرست حياتها لتتحكم فى حياته منذ طفولته متسللة داخل جلده لتجعل منه أداة انتقامها لمقتل شقيقه (“أن تجعل موسى يعيش بعد موته فى مكانى”). ولعل عبثية حالته هذه تجعله يشعر وكأنه يجر جثة شقيقه كل يوم لقمة التل ليراها تتدحرج الى القاع فى عملية بلا نهاية فى إيماءة عابرة إلى عمل فنى آخر لكامو:”أسطورة سيزيف” (Le Mythe de Sisyphe).

 

ما يميز حديث هارون فى البداية هو الغضب لما حل بشقيقه موسى (“أن تقتل أحدا ثم تنتزع منه حتى موته”) وهو غضب يتزايد داخله بمرور سنوات عمره ويعيد اجتراره كصورة مصغرة فى ذهنه لما حل ببلاده فالعالم كان شاهدا على جريمة قتل “الأجنبى” (‘el-roumi’) لشقيقه ونهبه لبلاده ولم يعد هناك أثر لفقدهم لأن أجدادهم خسروا الأرض وربما الهوية وكأن كل شئ قد حدث فى غيابهم. ويحكى هارون قصة البحث المضنى بلا جدوى عن موسى على شاطئ البحر وفى أحياء المدينة وهو طفل فى السابعة يجرى وراء أمه المكلومة ليواجٙها بجدار من الصمت الرسمى – عن جهل أو عدم اكتراث – وكأن موسى لم يكن أو كأن البحر قد ابتلع جثته. ثم تأخذه أمه ليعيشا فى قرية حاجو (Hadjout) بعيدا عن المدينة والشاطئ المشؤوم (وفى تداخل رمزى آخر مع رواية كامو فإن القرية هى التى كانت بقربها دار العجزة التى ماتت فيها أم مورسو). يعيش هارون طفولته وصباه وشبابه تحت مراقبة لصيقة من أمه التى جعلت من مأساتها الشخصية مزاراً دائما للمناحة والغضب ومن شبح موسى زائراً مقيماً بينهم لتذكير هارون بمطلبها الدموى: “لم تتركنى أضيع وقتا من غير شحذ سكين أنتقامنا العائلى”.

 

جاء وقت الانتقام مع مشارف الاستقلال، ففى الشهور السابقة له كان هناك رحيل جماعي للفرنسيين من الجزائر، وأنتهزت أم هارون فرصة رحيل العائلة التى كانت تعمل خادمة عندها لتستولى بوضع اليد على المنزل وتسكن فيه مع ابنها الشاب. وفى ليلة مقمرة يصحو هارون على صوت حركة فى المنزل فيحمل مسدساً ويتوجه ناحية الصوت وأمه من خلفه فيجد نفسه فى مواجهة دخيل فرنسى ربما ظن المنزل خالياً. وفى كلمات كأنها صدى لما حدث فى مواجهة مورسو مع موسى على الشاطئ يقول هارون أن كل ما كان عليه فعله ان يدورعلى أعقابه وينتهى كل شئ ولكن “أمى كانت هناك لتمنع أى تراجع من جانبى يحرمها من الانتقام…كانت تلك فرصتنا لندفن موسى بطريقة لائقة”. وعندما اطلق هارون رصاصتيه كان الصوت “كطرقتين خاطفتين على باب الخلاص” لتذكرنا كيف كانت طلقات مورسو الخمس على موسى قبل عشرين عاما وكأنها “طرقات متسارعة على باب التعاسة”.

 

ويكتشف هارون أن قتل الفرنسى لم يك طريقاً للخلاص الذى ظل ينشده طوال حياته. فهو لا يسمى جريمته قتلا ولكن تعويضاً أو استعادة لما فقد (une restitution) ربما عن استحقاق ولكن من غير شرف وقد يكون الانتقام قد أعاد إليه الحياة إلا أنه أضاف جثة جديدة عليه أيضا جرها أعلى التل بلا انقطاع. ويظل هارون بعد اعتقاله ينتظر عقوبته ولكن العدالة فى حالته كما كانت فى حالة مورسو، لها أيضا مدار تكتنفه العبثية وعدم المنطق. فالتحقيق معه لا يدور حول جريمة القتل التى أرتكبها فى حق الفرنسى بل حول أنها حدثت بعد يوم من اعلان الاستقلال. وكما يوضح له ضابط جيش التحريرالذى حقق معه أنه لو قتل الفرنسى أثناء حرب التحرير بدلا من يوم واحد بعد نهايتها لكان الوضع مختلفاً فالقتل أثناء الحرب يختلف عن القتل بدون حرب (“فهناك قوانين يجب أن تتبع”). ثم يريد الضابط أن يعرف وهو يلوح غاضباً فى وجهه علم الجزائر الجديد لماذا لم يشارك هارون فى حرب التحرير، ليذكرنا بالمتحرى وهو يلوح بالصليب فى وجه مورسو. ثم يهدأ قليلا بعد أن يسأله اذا كان شقيقه قد”استشهد” على يد فرنسى كما اخبرتهم أمه (وإن كان “الاستشهاد” قد تم قبل عشرين عاما).

 

فى النهاية يطلقون سراحه مما يثير غضبه لأن عدم محاكمته فيها نوع من عدم العدالة فهم لم يوضحوا له إن كان مجرماً أو قاتلاً أو ميتاً أو ضحية أو مجرد احمق لا يملك السيطرة على نفسه. وهو ببساطة يريد التخلص من ذلك الظل الثقيل الذى أخذ يحيط به: “وجدت موقفهم غير المبالى يكاد يكون إهانة لى…لقد قتلت رجلاً ولكن يبدو أن التوقيت فقط شكل مشكلة مبهمة لهم…وكأن انتقامى قد تم اختزاله إلى نفس مستوى مقتل موسى من عدم الأهمية”. وكما حدث تغيير فى شخصية مورسو بعد دخوله السجن، حدث تغيير لهارون بعد اطلاق سراحه. فهارون يشعر أنه مذنب تماما مثل مورسو (“اكتشفت اننى عملياً صِنْوالقاتل”) لانه يرفض أيضاً ان يؤدى الدور الذى فرضه المجتمع عليه، فالذى ضايق الضابط المحقق أكثر من التوقيت غير المناسب لجريمة القتل كان اتخاذ هارون موقفاً غير مبالى اثناء حرب التحرير (مما يذكرنا بالموقف المشابه الذى اتخذه كامو نفسه). ثم أنه بدأ يلتفت أكثر للأحداث والتطورات بعد الاستقلال فيلاحظ أن الناس قد “بدأوا فى إلتهام هذا البلد المدهش الذى استعادوه” واصبحوا فى حاجة الى ثِقٙل مقابل ٍ ليمنع سقوطهم فى الهاوية، فى إشارة واضحة إلى الحرب الاهلية أو ما وصفها “بالافعى التى لا نهاية لها” (‘le serpent sans fin’) والتى قد تقود البلاد الى موت سابق لأوانه.

 

وأذا كان هارون قد اتخذ موقفاً وسطاً فى حرب التحرير فان موقفه من طرفى المعادلة فى الحرب الاهلية (العسكرتاريا والاسلام السياسى) لم يكن وسطياً بل كان رافضاً لكليهما فهو ضد التكيف مع الأوضاع أو التماشى مع الأعراف اذا صدقنا زعمه بحرصه على حريته الفردية. فبعد أن يشاهد حماس ما بعد الاستقلال يستنفذ نفسه والاوهام تنهار يشعر بأن تياراً من الخوف يجرى تحت السطح: “فالوحش الذى سمن خلال سبع سنين من الحرب اصبح شرها…وبدأ صراع خفى بين القادة المنتصرين”. أما رفضه للاسلام السياسى فيتمثل فى نظرته للدين والتى يمكن أن يفهم منها رفضه ليس فقط لكل الديانات بل لأى وسيط بينه وبين ربه: “أود أن ألقاه لوحدى عند موتى كما عند مولدى” وبالتالى رفضه للحركات والتنظيمات الاسلامية: “أريد التوجه إلى الله على قدمىّ إن دعا الأمر ولكن لا أريد الذهاب فى رحلة منظمة” – لعله يقصد بها النقل العام الدينى اذا صح التعبير (‘J’aime aller vers ce Dieu, à pied s’il le faut, mais pas en voyage organisé’)

 

وثّمة تساؤل آخر عند هذه النقطة: هل اختيار داوود لإسمى هارون وموسى لأهم شخصيتين فى روايته مجرد مصادفة لا تستحق التوقف عندها أم أن استعمال اسمى نبيين شقيقين بهذا الوضوح يحمل رمزية دينية قد يفهمها البعض ويفسرها بطريقته وقد لا يفهمها الكثيرون؟ ثم لماذا يعطى هارون ولو فى رأسه فقط اسم موسى لنادل الحانة وروادها بما فيهم ما وصفه “بشبح الزجاجة” (‘le fantôme de la bouteille’) فى اشارة قد تكون لكامو أو لنفسه أو لا تكون؟ (تذكرنا بالصحفى الذى ظل يحدق فى مورسو أثناء محاكمته وأعطاه الشعور بأنه ينظرالى نفسه). ومهما يكن من امر اسمى هذين النبيين الكتابيين فقد جعل هارون من تواجده فى الحانة فرصة للاشارة اكثر من مرة لتزايد نفوذ الاسلاميين والقوانين الاسلامية فيطلب من محادثه فى الحانة مثلا ان يسرع فى شرب كاسه “لأنه بعد سنوات قليلة ستكون الحانة الوحيدة موجودة فقط فى الجنة…لماذا تعامل الخمر هنا وكأنها من عمل الشيطان فى حين أنها ستجرى أنهارا هناك؟”!

 

وكما فى بدايته يقوم داوود فى الجزء الأخيرمن “تحقيقه المضاد” بالتفاف آخر حول رواية كامو فيحول اسمها إلى “الآخر” (L’Autre) بدلا عن “الغريب” (l’Étranger) ويجعل الراوى مورسو هو المؤلف بدلا من كامو . ثم يجعل من (مريم) الباحثة عن حقيقة (العربى) والتى يحبها هارون لاسابيع فى علاقة لا مستقبل لها (“قنعت بحب خيبة أملى فى الحب”) هى الوسيط فى تعريفه برواية مورسو وما تحويه من تجاهل شائن لمقتل شقيقه موسى. وللقارئ ان يتساءل هنا هل لاسم مريم دلالة أكثر من كونه المصطلح العربى المقابل لاسم (مارى) صديقة مورسو فى صدىً آخر لرواية كامو؟ أم أن الإشارة لمريم تحمل هنا أيضاً رمزية دينية يمكن للقارئ تفسيرها– أوعدم تفسيرها – من أى منطلق أراد؟ ثم أن لتبادل الأدوار بين كامو ومورسو مقاربة أخرى حين يتقمص داوود نفسه أحيانا شخصية هارون مما يعطى القارئ انطباعاً بأن ما يدور من أحداث متشابكة ومتداخلة فى الروايتين هى أكثر من سرد روائي وليد الخيال بل تبدو أحياناً وكأنها وصفاً أو مراجعة لاحداث حقيقية. أو من منظور مختلف تماماُ فى النهاية – فى مفارقة ابداعية أخرى–كأن كل ما رواه هارون لا يعدو أن يكون أكثر من خطرفات عجوز مشتت الافكارداخل حانة بمدينة وهران! فهو فى النهاية يثير تساؤلاً فى أذهاننا حول حقيقة ما رواه لمحادثه فى الحانة: “أنا شقيق موسى أو لا شقيق لأحد وربما مجرد كذاب أشر التقيته أنت لتملأ كراسة دراستك. فما هى الحقيقة فى ماحكيته لك؟ هذا خيارك يا صديقى!” فكأن داوود فى النهاية يقول للقارئ أيضاً: عليك أنت أن تقرر! (‘À toi de trancher’)

 

ولعل من المآخذ القليلة على تحقيق داوود – فى تقديرى على الأقل – يأتى من تماهٍ أخير مع رواية كامو حيث يقتبس من غير داع حقيقى مقطعاً طويلاً من مواجهة مورسو الدرامية مع قسيس السجن ليوبخ إمام المسجد بنفس الكلمات التى استعملها كامو/مورسو. هذا الاقتباس الطويل لا يزيد شيئا للتواصل الفكرى والفنى فى التوأمة بين الروايتين والتى ينجح داوود فى ربط المقاربات والمفارقات فيهما باسلوب سلس ومشحون وذى رمزية وتوازن يكاد يكمل التطابق بين شخصيتى هارون ومورسو. ألم يكن فى الامكان إذن خلق مواجهة أخرى بين هارون وإمام المسجد بمعان وكلمات مستوحاة من تجربة الجزائر نفسها والتى وصل فيها التطرف الدينى حد الحرب الأهلية؟ أو ماذا لو كانت النهاية فى شكل استمرار لتخيلات فى ذهن هارون عند صعوده لمئذنة المسجد ليعدد صائحاً كل خطاياه ثم يخبر محادثه فى الحانة فى جملة رائعة: “هل يمكنك أن تتخيل ما يتعين على عجوز مثلى أن يتحمله وهو لا يؤمن بالله ولا يصلى فى المسجد ولا زوجة له ولا أطفال و مع ذلك يستعرض حريته فى علانية واستفزاز؟”. وفى نفس الوقت ربما يكون للاقتباس معنىً محدداً فى ذهن داوود قد لا يستطيع كل قارئ سبر أغواره كما قد يصعب على من هو غير جزائرى أن يتمكن من أن يتفهم بشكل افضل تصورات داوود الخاصة ونظرته لاهمية ومعان التقاطع والتواصل الثقافى (cross-cultural) الذى يربط فرنسا ما بعد كامو بجزائر داوود.

 

ومهما يكن من أمر فإن ما يجمع الجزائر من تراث اسلامى ليس فقط بسائر دول المغرب العربى فى شمال أفريقيا بل أيضا فى شرق القارة وغربها قد أفرز أيضا ظاهرة مروجى الهوس الدينى ومحتكرى صناعة التكفير وموزعى الفتاوى بحز الرؤوس واستباحة دماء خلق الله. فالدعوة الأخيرة من زعيم حزب سلفى فى الجزائر لقتل كمال داوود تقف دليلاً مؤلماً على أن المعتقدات البالية المنكِرة للحريه وللحياة لا تزال تعشعش فى أذهان الذين أنغلقت عقولهم عن تقبل العلم والابداع الفنى. فى رواية (الطاعون) يقول أحد أبطال القصة: “ان الشر فى العالم يكاد يأتى دائماً من الجهل…والناس فى غالب أمرهم أميل إلى عمل الخير من عمل الشر. ولكن هذه ليست القضية. فهم جهلاء لدرجة قد تزيد أو تنقص وهذا ما نسميه بالرذيلة أو الفضيلة والرذيلة التى لا يجدى معها اصلاح هى الجهل الذى يتصور أنه يعرف كل شئ ولذا يعطى نفسه الحق ليقتل…”

 

 DOWNLOAD [PDF format]


* استاذ جامعى متقاعد مقيم فى الولايات المتحدة. عمل وزيرا للثقافة والاعلام بحكومة السودان الانتقالية (١٩٨٥-١٩٨٦) وله موقع اسفيرى (mbhamid.com) يحوى معظم كتاباته باللغتين الاتجليزية والعربية.

Back to Top