Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٣٤) : الحوار

Al-Rakoba 10 July 2015

الحوار

رجعت مُجهدا إلى البيت ووجدت (أم العيال) مستلقية كعادتها فى ظل العصر وهى على غير عادتها تحتضن المذياع فى تتبع مشدود لبرنامج لم أستطع أن اميزه تماما وإن طرقت أذنى أصوات أشبه بشخير النائم المتعب عزيتها بغبائى المعهود لسوء الارسال الاذاعى. قلت لها فى تعليق لا معنى له واصفا ما لا يحتاج لعبقرية أخصائى فى الأحوال الجوية لتشخيصه: “شايفة السخانة دى كيف؟” وعندما لم ترد خمنت أنها قد لاتزال غاضبة لإنقطاع التيار الكهربائى إما بسبب قطع عام غير مبرمج كالعادة أو لأننى لم أقم– وهذا هو المرجح– بتسديد فاتورة (الجمرة الخبيثة) المبرمجة بدقة يحسدنا عليها السويسريون. قررت أن أقوم (بتخريمة) تكتيكية منتقلا من الشأن (العام) الذى لا قدرة لدينا فى فعل شئ حياله (سوى الشكوى لله لنتحاشى المذلة) إلى (الخاص) الذى قد يستدر لنا بعض الشفقة، فقلت فى صوت يغلب عليه الترجى أكثر من الحزم : “والله الجوع قرضنا! كدى قومى يا ولية حضرى لينا الغداء”. ويبدو أنها لم تسمعنى فأعدت عبارتى عدة مرات. فقالت بضيق بعد فترة من غيران تبدى حراكا:” الغداء ختيتو ليك مغطى فى التربيزة الجوه”. وبقدر ما أغاظنى هذا التجاهل المتعمد بقدر ما أثار فضولى فى ماهية ذلك البرنامج المذاع الذى استأثربانتباهها لهذه الدرجة. وعملا بفلسفة (شليل وينو؟) التى ما فتئتُ أقوم منذ أيام طفولتى بتطويرها وتجويدها قررت أن أقوم أنا (بخطف الدودو) هذه المرة. فقلت فى صوت يغلب عليه الحزم اكثر من الترجى: ” طيب ادينى الراديو ده عشان فى كورة بدت ليها خمس دقائق خلينا نشوف الهلال لغاية حسع أدوه كم قون”. فصاحت مستنكرة: “هلال شنو ومريخ شنو يا راجل! انت ما شايف انا قاعدة اسمع فى ( الحوار)”.

 

لوهلة – سادتى – أصابتنى الدهشة ليس بسبب هذا التحدى السافر لهيبتى (فكاذب أى رجل يدعى بقية من هيبة بعد أكثر من اربعين عاما من الزواج) بل لأن كلمة (حوار) هذه سببت لى بعض البلبلة الذهنية، فما أعرفه أن (أم العيال) تقضى الصباح بأكمله وأحيانا جزءً معتبرا من الظهيرة وهى واقفة خلف الحائط القصيرالذى يفصلنا عن جارنا (حاج يوسف) فى (حوار) غير منقطع مع زوجته (أم محمد) أكاد أجزم أنه قد تمت خلاله دراسات تكفى لملء عدة ملفات فى مكتبة صندوق النقد الدولى عنما جرى (لقفة الملاح) فى بلدنا منذ أن كانت خمسة وعشرين قرشا (ما كانت تُعرف بالطرادة) كافية لملئها وتتبقى بعد ذلك (شوية قريشات) يُمكن التكرم بها لأى حامل أثقال يستطيع رفعها عن الأرض. سألت بحذر “انتى يا ولية اتشاكلتى مع مرٙة حاج يوسف؟” نفت (أم العيال) ذلك بهزة شديدة من رأسها وهى تنظر لى باستغراب من غير ان تبعد المذياع عن أذنها.

 

هممت – سادتى – أن أقترح عليها أنه قد يكون من السهل التحاور مع جارتها عبر الموبايل بدلا من المذياع ولكن شيئا ومض فى ذهنى كالكهرباء المقطوعة وجعل بعض الاسئلة المفتاحية تتسابق داخل مخيلتى: ماذا لو أن (أم العيال) وجارتها (أم محمد) قد اكتشفتا طريقة للتخاطب عبر الراديو ضاربتين عصفورين بحجر واحد (أو ربما –للنتيجة ذاتها فى هذه الحالة–عصفورا واحدا بحجرين): أولا عدم الحاجة لشراء أى رصيد موبايلى مستقبلا (ويا شماتتاه يا زين!) وثانيا الالتفاف ببراعة حول حاجز الرقابة الامنية على موبايلاتنا! ولم لا؟ صحيح أن التحادث بواسطة الراديو اختراع قديم قدم الراديو ذاته ولكن ماذا يضير من إعادة إختراعه؟ ألم يعد صبى سودانى اختراع الساعة بعد أن قذفت به الأقدار القاسية– بما فيها على ما يبدو فشل والده فى الانتخابات الرئاسية عندنا– إلى الولايات المتحدة (لعل وعسى)؟ وعند هذه النقطة بدأ تفكيرى بالتحرك فى بطء لإنشغال دماغى فى تضريبات حسابية معقدة: كم سيتبقى لنا من ثمن إعادة اختراع هذا الاختراع بعد دفع فاتورة الكهرباء؟ كيف يتم ترتيب اللقاءت الرئاسية: داخليا أولا أم خارجيا؟ هل نقبل باى وديعة دولارية قد تأتينا من قطر (تحت الحساب) أم ننتظر عرضا استثماريا قد يأتينا به وزيرنا (المعجزة) الذى تمت ترقيته سفيرا؟ أو لعله من الأجدى أن (نتّقل شوية) حتى نقدم لمحبينا الصينيين عرضا لا يمكنهم رفضه أو يقدم لنا مرعبينا الأمريكان عرضا لا يمكننا رفضه؟

 

صحوت من تهويامتى تلك على صوت (أم العيال) وهى تسألنى: “انت مالك يا راجل وشك مختوف كده؟ معقول تكون دخلت فيك جوعة بالشكل ده؟”. سألتها اذا كانت قد ذكرت (لأم محمد) أى شى عن (حكاية الراديو) فأخبرتنى أن جارتها لا تعير التفاتا لهذه الأشياء وأن كل أهتماماتها تنحصر عادة فى (شمارات) ذات طابع اجتماعى بحت. ورغم أن هذه المعلومة الأخيرة قد أدخلت بعض الطمأنينة لقلبى الا أنه يبدو أن معالم القلق لم تنمحِ تماما من وجهى فقد أضافت قائلة بعد فترة: “قوم يا راجل اكُل ليك حاجة وكان مزعلك الأقوان اللى بتكون خشت فى الهلال لغاية دلوقت وما شفتها أنا حاحكى ليك عن ماتش ولا الدربى بتاع (المان يوناتيد) و(المان سيتى)”.

 

وبعد ان قامت باحضار صينية الغداء أستعدلت فى جلستها ثم أستطردت: “شوف يا سيدى الحكاية زى ما أنا متابعاها فى الراديو كلها لعب تمام التمام أسمه (حوار) الدورى ومرات بقولوا عليه (دورى محاورة المحاورة الممتاز) مش زى بتاع ناس (بلاتر) والفيفا اللى طلع كله رشوة وفساد وغش والعياذ بالله. والحكومة كتر خيرها هى المنظمة للدورى وكل يوم فى الوقت ده بيذيعوا الماتشات بعد نشرة الأخبار. فى الأول كان في مشاكل بسبب تسجيل الاتيام واللاعبين وفى شكلة كبيرة قامت لمن الجمهور احتج عشان فى أتيام ما مشتركة فى الدورى ده بالمرة واغلبها من الاقاليم مثل تيم (فورى الدافورى) وتيم (كتاحة كاودا) وأيضا تيم أمدرمانى عريق (الثورة بالنص) كان اسمه زمان (المهدية ‘بتوضيحاتها’) وقالوا الكابتن بتاعه قاعد زعلان بره البلد عشان الاتحاد شطب اسمه من كشوفاتهم بعد ماقالوا اتسجل مع تيم فى (باريس). وفى تيم امدرمانى تانى برضو ما مشارك اسمه (على الشيوع) وشعاره (حضرنا ولم نجدكم) وأفتكر أنه مشجعينه كانو أصلا فى الحتت اللى ناس الحكومة باعوها كلها زى ما قال الوالى “.

 

سكتت (ام العيال) لتستجمع أنفاسها وبعد أن رمتنى بنظرة فاحصة للتأكد أن انهماكى فى الاكل يتم فى توازن دقيق مع انتباهى التام لما تقول استطردت قائلة: “أصلو يا سيدى رئيس الاتحاد قال همّ نظموا الماتشات وجهزوا كل حاجة بما فيها الملعب والحكم واللى هو رجل الخط اللى بتحرك فى كل الاتجاهات وحتى فنايل اللاعبين وكمان فى مراقب دولى اسمه امبيكى يمكن يستدعوه لمن يصحى من النوم فى اللكوندة الساكن فيها فى نيروبى. والريس كمان قال اللى عاوز يلعب يجى يلعب جوه الاستاد بتاعهم والماعاجبه يمشى يشرب من موية المطرة فى كوبرى كوبر”.

 

قاطعتها مندهشا: “هو لسع العيال بتلعب فى الموية الراكدة فى كوبرى القوات المسلحة؟”

 

تجاهات سؤالى وكأنه لا يستحق التعليق واستمرت قائلة: “وبعدين أهم تيمين فى الدورى ده هم التيم المضيف وده فى حالة استضافة طوالى واسمه (التحلل بحِلك) وشعاره الرياضى جدا (لا لفوزٍ قد لعبنا) التقول الكورة بتدخل فى القون براها. الكابتن والمدرب ورئيس مجلس ادارة (التحلل) هو كمان رئيس الاتحاد وحكم الماتشات كلها ولعيبته ديمة يجيبوا اقوانهم من حالة تسلل ظاهرة واذا الجمهور كله احتج والناس كوركوا (ده ما سارق عديل يا حكم!) رجل الخط اللى هو الحكم نفسه يقول ليهم (الشافوا منو؟ ووينها مستنداتكم؟) ويقوم طوالى يطلع ليهو كرت أخضر لزوم التحلل للاعبهم وكرت أحمر لطرد المعترضين. قبل كم يوم طلع كمية من الكروت الحمر قالوا طباعة صينية لطرد تيم كامل قال اتلامضو عليه وقالوا ليه حارس مرماهم ما ممكن يكون عليه بلنتى عشان مسك الكورة بى يديه عشان ما تخش قونه. والتيم التانى هو (الخالف تخالِف تخلِف) وكابتنه لعيب مخضرم و(شيخ) لعيبة من كلو، وكان متخصص فى اللعب الغير قانونى وكسير سيقان اللاعبين والشوت خارج الملعب والخرخرة الكتيرة. وبيقولوا ان التيمين كان أصلهم تيم واحد انقسموا فريقين لزوم التمرين وتوزيع الخانات فمشى واحد يتمرن فى ملاعب (كوبر) والتانى للتسخين فى نجيلة (القصر)”. هنا صمتت (أم العيال) فجأة فى حركة درامية مباغتة اذا كانت تقصد منها محاكاة الطريقة التى تنتهى بها كل حلقة فى المسلسلات التركية فقد نجحت فى ذلك تماما. ثم قامت لتجهز الشاى تاركة إياى وأنا أنظر خلفها فاغرا فاه فى تعجب وذهول. وأنا اسألكم سادتى بكل أمانة وانصاف: كيف بربكم يختار وزير رياضة الولاية لجنة تسيير لفريق المريخ من غير أن يختارها رئيسة لها؟

 

عادت تحمل صينية الشاى وابدت استغرابها لاننى لم أقم لغسل يدىّ فمسحتهما فى طرف جلبابى على الفور وقلت لها متلهفا: “وبعدين حصل شنو؟” قالت وهى ترشف الشاى بتوؤدة: “ولمن جوا عشان يتبادلوا اللعب والفنايل حصلت الشكلة فبقوا تيمين لكن بلعبوا بتكتيك واحد وتفكير واحد وهدف واحد وبقوا زى ما بيقول المثل…”وهنا ضحكت وهى تقول: “أنت يا راجل عارف المثل بيقول شنو!”. وبما أنى لا أعرف (المثل بيقول شنو) فقد التزمت الصمت. وبعد أن رشفت آخر جرعة من الشاى أضافت وكأنها تؤكد ما قالته: “والله يا ابوخالد انا ما بفهم فى الكورة كتير ولكن من الشفتو فى (محاورة) الليلة دى (التحلل) و(الخالف) ديل قاعدين يفتحوا لبعض عديل كده. قون بى هنا وطوالى قون بى هناك”! سكتت برهة ثم أضافت فى تحسر ظاهر: “ولكن عاد يا ربى سيدى الحسن ده متين يجيب قون ويريحنا؟”. وفى تعاطف نادر من جانبى مع (ختميتها) طمأنتها أن سيدها الحسن (سره باتع) وأن المائة وواحد وثمانين يوما التى أعلن قبل قرابة العام أنه سيحل خلالها كل مشاكل السودان لم تنته بعد (بحساب الاولياء الصالحين) وأنه من غير شك سيسجل هدفا (ميسيا) ببركة (ابوهاشم)، فأنبسطت أساريرها وبدت فى غاية الانبساط من هذا التغير المفاجئ فى قناعاتى الطائفية.

 

هنا – سادتى– وصل الى مسامعنا صوت (أم محمد) وهى تناديها فذهبت إليها وسمعتهما تتهامسان عند الحائط القصير وبعد فترة عادت (أم العيال) لتخبرنى أن علىّٙ تهنئة حاج يوسف (وهو هلالابى داعشى التطرف فى هلاليته) بعد انتهاء مباراتهم مع فريق من (مالى). قمت وندهت عليه من وراء الحائط فجاء فرحا مستبشرا وقال لى بابتسامة عريضة: “تتصور يا بو حميد غلبونا بخمسة أقوان بس”. هنأته على هذا الانجاز الرائع متمنيا لهم هزيمة لا تزيد على هدفين او على الأكثر ثلاثة فى مباراة الذهاب مؤكدا له أننا فى المريخ لن نقبل باقل من هذا التفوق للكرة السودانية فى مباراتنا مع الفريق الصومالى الزائر. عندما رجعت وجدت (أم العيال) قد عادت تستمع للمذياع فيما بدا لى أنه مباراة ساخنة فدخلت لغرفتى وبمجرد ان استلقيت على سريرى رحت فى غفوة قصيرة.

 

وفجأة صحوت على صوت (أم العيال) وهى تصيح: “مش معقول! تعالوا يا ناس الحلة شوفوا ده! يا جماعة ده مش معقول!” سألتها ملتاعا: “يا ولية الحصل شنو؟”

 

قالت وهى تنظر فى ذهول للمذياع الملقى على الأرض: ” سيدى الحسن يا بوخالد! سيدى الحسن جاب قونين فى دقيقة واحدة!”

 

صحت مهللا: “معجزة! والله معجزة! تاريها (عيشة) بتاعة المجلس الوطنى معاها حق!”

 

قالت أم العيال بانكسار: “المشكلة جاب القونين فى روحو فى القون المفروض يكون بتاعنا!”

 

وأنا على يقين – سادتى – أن فيكم من يملك من الذوق السليم والكياسة الفطرية بحيث لا يسألنى إذا كانت (أم العيال) لا تزال تتابع (دورى محاورة المحاورة)، وكما أعرف أن لكم من اللباقة والروح الرياضية (بإستثناء بعض الهلالاب الشامتين) بحيث لن تسألونى عن عدد الأهداف التى ولجت شباك المريخ فى لقائه مع الفريق الصومالى. ولكن دعونى أسر اليكم أن التفاؤل رغم كل النكسات – الكوّرية منها والحاورية –لا يزال يعشعش فى صدورنا و لم ينقطع الأمل فى أن يرن الهاتف أو المذياع ليخبرونا أنه تم تعيين (أم العيال) رئيسة للجنة تسيير فريق الهلال المرتقبة أو بالعدم نائبة لرئيس المجلس الوطنى.

 

٢٩ اكتوبر ٢٠١٥

 


Back to Top