Mohamed Beshir Hamid

(هواجس ساخرة (٣٢) : (الوفرة فى النُّدرة

Al-Rakoba 10 July 2015

(الوفرة فى النُّدرة)

 

 

ذكرتنى قطوعات الكهرباء والمياه المتكررة هذه الأيام بمقال ساخر كتبته باللغة الانجليزية بعنوان “الوفرة فى الندرة” (Abundance in Scarcity) ونشر فى يوليو ١٩٧٩ فى مجلة (سوداناو) التى كانت تصدرها وزارة الثقافة والٳعلام حينذاك. والمقال يحكى عن صديق وهمى لى يدعى (عارف) هو عبقرى زمانه فى الاقتصاد والسياسة وكافة مجالات العلوم والرياضة والفكر ولا أعتقد أنه كان صعبا على غالبية القراء فى ذلك الوقت التعرف على الشخصية التى يرمز اليها الأسم فقد أسميت سلسلة مقالاتى (The World of ‘Arif) نسبة لعالمه الفريد الذى تسلط فيه على رقاب الناس. فى المقال تتفتق عبقرية (عارف) على أن أزمات الخبز والوقود والكهرباء التى كانت متفشية تلك الايام ترجع الى أن سياسات ضبط السوق ومحاربة السوق السوداء قد ثبت فشلها ثم أنها عادة تأتى بنتائج عكسية فينبغى السير اذن فى الاتجاه المعاكس ليس فقط بفتح السوق بما يتمشى مع سياسة التحرر الاقتصادى الرأسمالى بل باغراق السوق وفقا لنظرية (الوفرة فى النّدرة) أو توءمتها (النُّدرة فى الوفرة) أيهما كان الأسرع مفعولا حسب المفهوم (العارفى) فى تحصيل الحاصل. وتتمثل هذه الخطة – أوبالأصح الخبطة – الاقتصادية فى أن يقوم محافظ الخرطوم باصدار أوامر محلية تلزم كل المخابز بطرح ٩٠٪ من حصتها من الدقيق فى السوق السوداء وتلزم كل محطات البنزين بطرح نسبة مماثلة من البنزين فى السوق الموازى مع الزام كل سيارة بملء خزان الوقود حتى يفيض. وبعد أن يتم اغراق الأسواق السوداء والرمادية والموازية بالدقيق وبالوقود بما يزيد عن مقدراتها الاستيعابية تبدأ هى بدورها فى التخلص من الفائض بٳعادة بيعه للمخابز ومحطات الوقود وكلما زادت نسبة ال ٩٠٪ من الضخ فى تلك الأسواق كلما قل الطلب مما يدفعها لتقليل السعر حتى تضطر فى النهاية لٳستجداء المخابز ومحطات البنزين لأخذ ما يحتاجونه مجانا وفى بعض الحالات ٳلى دفع ٳغراءات مادية لهم حتى يمكنها تجنب تكاليف التخزين المتزايدة بنسبة ٩٠٪. وبالطبع تُكلل هذه السياسات بالنجاح الباهر المتوقع وتنشر الصحف أنه تم القبض على أحد اصحاب المخابز لزيادته وزن وعدد الخبز فوق الحصة المقررة كما تعلن بعض محطات الوقود أستعدادها لدفع ٳطار سيارة مجانا مقابل ملء كل (جركانة بنزين فاضية) يأتى بها صاحب السيارة.

 

أما بالنسبة لانقطاع التيار الكهربائى فخطة (عارف) تتطلب أن يستمر القطع لكل أحياء العاصمة لمدة ٢٥ ساعة يوميا حتى تتركز شكوى الجماهير فى تلك الساعة الزائدة والتى يتم الغاؤها بقرار جمهورى فوقى. وجاء فى الصحف قيام محافظ الخرطوم بجولة ميدانية أبدى بعدها ارتياحه لشخير مواسيرالمياه وللظلام الدامس الذى تنعم العاصمة به والذى لا يعكر سواده الا اضواء السيارات التى تتسابق مبتهجة فى الشوارع بغير هدف غير افراغ خزانات وقودها المتخمة. ولكن أتضح بعد فترة أن ذلك التفاؤل سابق لآوانه. ففى حين تم بنجاح قطع الامداد الكهربائى عن الأحياء الراقية فى الرياض والعمارات والخرطوم اتنين وبرى وامتداد ناصر فقد فشلت كل المحاولات لقطع التيار عن الحاج يوسف والكلاكلة والصحافة وأمبدة والثورة وبقية الأحياء الطرفية. ومع أن مكتب المحافظ قد أصدر تطمينات بان بعض الاشكالات الفنية تجرى معالجتها الا ان الشائعات بدأت فى الانتشار عن احتجاجات وتظاهرات فى تلك الأحياء الطرفية على استمرار امدادهم بالكهرباء والماء فى حين تنعم الاحياء الراقية بالظلام وانقطاع الماء. وصرح رئيس لجنة شعبية تكونت فى الحاج يوسف للمطالبة (بالمساواة فى الظلام) بلهجة غاضبة: “نحن لا نقبل بالتمييز والتفرقة ضدنا فاذا لم تستطع الدولة قطع امدادات الكهرباء والماء عنا فسنقوم بذلك بأنفسنا”!

 

عندها وقبل استفحال المشكلة أعلن مكتب المحافظ فى تصريح صحفى اعفاء مدير هيئة الكهرباء والماء من منصبه لعدم الكفاءة والتقصير المخل بالواجب لفشله فى قطع الكهرباء والماء عن الاحياء المنكوبة. وأفاد ذات التصريح أن قطع الامدادات عن حى الصحافة قد كللت بالنجاح بفضل العون الذاتى لاهالى المنطقة وأن المشكلة بالنسبة للأحياء الأخرى هى أن مولدين للكهرباء لم يمكن ايقافهما وأن المحافظ قد بدأ فى محادثات مع قيادة الجيش للنظر فى امكانية نسفهما كليا. وفى اليوم التالى أعلن متحدث عسكرى أن فرقة من سلاح المهندسين ستكون فى طريقها للولايات المتحدة الامريكية لتدريب مكثف فى أعمال التخريب الذاتية مضيفا: “لقد غلبنا والله حيلة مع توربينات المولدين الملعونين ديل الما عاوزين يقيفوا من الدوران”.

 

وفى هذا الاثناء أعلن محافظ الخرطوم أنه نزولا لرغبة مواطنى العاصمة فى التضامن مع الأحياء الطرفية المنكوبة فقد تقرر مد الكهرباء والماء لأحياء الوسط الراقية حتى يتم التكافل الاجتماعى المنشود لحين التعامل مع المولدين المتمردين فور عودة فرقتنا العسكرية بعد اتمام تدريبها فى أمريكا. ومن ذلك الحين لم يشكُ أحد من طول الطوابير أمام المخابز أو طول الانتظار فى محطات الوقود كما أن انقطاع التيار الكهربائى أو اعتكاف الماء داخل المواسير أصبح من ذكريات الماضى التى سنحكى عنها لاحفادنا. ولم أسعد بلقاء صديقى (عارف) منذ هذه الأحداث السعيدة لأشد عل يده مهنأً على أفكاره العبقرية وانجازاته الرائعة. ولعل الظروف تسمح لى بفعل ذلك فى المستقبل غير البعيد فالشائعات التى ملأت البلد فى الآونة الأخيرة ترشحه وزيرا للاقتصاد والتخطيط الوطنى فى التشكيل الوزارى القادم.

 

هذا ملخص بتصرف شديد فى الترجمة للمقال الذى كتبته قبل قرابة السبعة وثلاثين عاما والمفجع أنه لا يمكننا حتى أن نعزى أنفسنا بالقول السائد (ما أشبه الليلة بالبارحة) فليلنا اليوم لا يشبه أى شئ عانيناه من قبل. كان يمكننا أن نسلى أنفسنا حينذاك عندما قام نميرى فى أحدى هوجاته (العارفية) بفصل مدير هيئة الكهرباء وتعيين نفسه مكانه، باطلاق النكات عن (الكهرباء اللى بتكتل أى زول يمسكها لكن لمن نميرى مسكها كتلها!). فهل نضحك اليوم عندما يعلن (محافظنا) الجديد عجزه لأن (الحتات باعوها كلها) أو عندما يستعين (بدعاء التّهجُّد) لحل أزمة المياه؟ هل نقول لمن وعدونا بأن (نأكل مما نزرع) ثم قالوا لنا بعد ربع قرن من الحكم أنه ليس من أولوياتهم أو حتى فى مقدروهم (توفير لقمة العيش لا خلال خمس سنوات قادمة ولا خمسين سنة)؟ هل نتبسم ونقول لهم: (بى عافيتكم! الوفرة فى الندرة!)؟

 

لعل الجانب المشرق من معاناة قطوعات الكهرباء والمياه ما بين الأمس واليوم يكمن فى مفارقة سودانية بحتة يندر حدوثها ولا تخلو من مغازٍ فد يجد فيها البعض طرافة وقد يستلهم البعض منها دروسا: فعندما أعلنت النقابات الاضراب السياسى فى انتفاضة أبريل ١٩٨٥ كان الناس يهللون فرحا فى المساء عندما ينقطع التيار الكهربائى ويعم الظلام أحد الأحياء فقد كان معنى القطع حينها أن مجموعة أخرى من مهندسى وعمال الكهرباء قد أضربت وأن العصيان المدنى يسير بنجاح. ولكم تساءلت وأنا استرجع ذكريات تلك اللحظات التاريخية بكل ما حملته حينها من مشاعر متناقضة امتزج فيها الفخر بالغضب والأمل بالخوف اذا كان شباب اليوم سيفهمون يوما ما تعنيه سويعات من الفرح العارم لا لشئ أكثر من انقطاع التيار الكهربائى.

 

وبما أن الشئ بالشئ يذكر فقد كتبت مقالا ساخرا للنشر فى (سوداناو) بعنوان (The 100% Solution) تدور أحداثه عن فكرة تبناها (صديقى عارف) من غير دراسة كافية كعادته لزراعة بعض الخضروات والفاكهه بحديقة منزله معتقدا أنه بذلك سيكفل لبيته اكتفاءً ذاتيا ولنفسه وضعاً مميزا فى الحى ببيعه فائض انتاجه للجيران (“سلة غذاء الشرق الأوسط”) والمشاكل التى يخلقها بتصرفاته الرعناء لبيته ولجيرانه ولمشروعه ولمموليه. ويبدو أن وكيل وزارة الثقافة والاعلام حينها قرأ (بروفات) المقال بعد طبعه وقرر سحبه من النشر فى أخر لحظة. وكنت قبلها بفترة قد نشرت فى (سوداناو) مجموعة من الكاريكاتيرات عن السادات واتفاقية كامب ديفيد أثارت غضب السفارة المصرية بالخرطوم واحتجاجها لدى الوزارة (وكانت تلك بداية عداء من جانب السلطات المصرية تجاهى استمر حتى قرب نهاية نظام مبارك ولكن تلك قصة أخرى). المهم جاء ٳلى مكتبى فى الجامعة أحد محررى (سوداناو) وهو صحافى كفء ونشط أعرفه جيدا فقد كان حلقة الوصل بينى وبين المجلة (بل أظنه هو مٙن أقنعنى أصلا بالكتابة لسوداناو) ليخبرنى وهو محرج للغاية برسالة وكيل الوزارة لى بانهم كشفوا رموز واشارات المقال وأنه لا مكان لديهم لمقالاتى أو كاريكاتيراتى (على الأقل لم يحيلونى لمحكمة الصحافة او لجهاز الأمن كما يفعلون حاليا). أذكر أننى حينها وفى لحظة غضب قلت لذلك الشاب المهذب كلاما قاسيا ندمت عليه فيما بعد بما معناه أننى كنت أتخيل نفسى أتعامل مع صحافى وأكتشفت أننى أتعامل مع موظف فى مصلحة الٳعلام. وتمر الأيام وينتقل ذلك الشاب ليعمل فى صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية وتشاء الصدف عندما أصبحت وزيرا للثقافة والٳعلام فى الحكومة الانتقالية بعد ذلك بسنوات قليلة أن يكتب مقالا عنى بعنوان (الوزير رسام الكاريكاتير). ولكن تلك قصة أخرى.

 

For those who wish to access the original English version of “Abundance in Scarcity” click here

 

بيثيسدا ميريلاند

 

١٠ يوليو ٢٠١٥

 


Back to Top