Mohamed Beshir Hamid

خذونى لزعيمكم

نشر هذا المقال الذى تقمص فيه الكاتب شخصية رئيس الوزراء الصادق المهدى أصلا بالانجليزية فى (سودان تايمز) وقام الكاتب بترجمته للعربية ونشر فى صحيفة (الأيام) قبل أيام من الإنقلاب العسكرى الذى قادته الجبهة الإسلامية القومية.

 

الأيام ۲٤ يونيو ۱۹۸۹

 

خذونى لزعيمكم

 

تملكنى شعور بالإستياء الممزوج بالعكننة والنرفزة عندما قرأت قبل فترة إفتتاحية لصحيفة (النيويورك تايمز) جاء فيها أنه لو وصل للإرض زائر من كوكب المريخ وقال “خذونى لزعيمكم” فسوف يتم أخذه على الفور للكرملين لمقابلة الرفيق ميخائيل جورباتشوف. وكنت على قناعة تامة بان أى شخص يزن الأمور بحنكة ومعرفة سيفهم الدعاوى المنطقية لاستيائى. فقد كان واضحاﹰ أن تلك الافتتاحية المفترية تعكس عدم فهم الأمريكان بما يدور فى عالمنا وتفضح جهلهم المطلق بالمقومات والركائز الأساسية لما يشكل دور الزعامة السياسية. وحتى صحيفة (برافدا) السوفيتية لن تبلغ بها الصفاقة لتقترح مثل هذا الإدعاء السخيف أو أن تحاول المجاملة تلميحاﹰ بأهمية أخذ زائر المريخ لمقابلة الرئيس جورج بوش. فأى مراقب متمرس فى السياسة الدولية يعلم جيداﹰ أنه لو هبط زائر من كوكب آخر وقال “خذونى لزعيكم” فسأكون أنا أول من يستحق شرف مقابلتى.

 

هذا لا يعنى بالطبع التقليل من شأن ومكانة الرفيق ميخائيل جورباتشوف كما ليس عندى أى حساسية شخصية تجاهه. بالعكس تماما فأنا أول من يعترف بأنه زعيم محبوب وموهوب، فمظاهرات الطلاب فى الصين تهتف بإسمه وزعماء العالم يتكالبون للنظر لطلعته البهية ويبدو أنه حتى مارجريت ثاتشر قد أضحت متيمة به وهى تدخل فترة مراهقة ما بعد الخمسين!

 

ولكن يجب أن نحدد بصورة قاطعة لا تدع مجالاﹰ للتأويل أو التشويش أن جورباتشوف لا يملك خبراتى ولا يتمتع بالهيام المتبادل بينى وبين السلطة والذى تمتد أوصاله لأكثر من عشرين عاماﹰ. كما لا يمكنه الإدعاء بأنه من سلالة القياصرة أو أن جده الاكبر قد هزم الايراك فى حرب القرم. ثم لا يعقل أن شخصاﹰ ملحداﹰ يجهل الأبعاد الأصولية لمزايا القواعد الإجتماعية يمكن أن يكون الزعيم الحقيقى أو الممثل المثالى للجنس البشرى. وبلاده ذاتها مع اتساع رقعتها ليس لها التفرد العرقى الخاص الذى تمتاز به بلادى فمنذ متى أصبحت لبلاده مشكلة قبليات كالتى نتمتع بها منذ الاستقلال؟ ورغم سياسة (البيرسترويكا) التى قرر جورباتشوف إنتهاجها فالأمل ضعيف ان تلحق بلاده بركبنا وتنضم لمجموعة الدول الاكثر تخلفا التى نتشرف برئاستها. وعليه فليس للرجل ولا لبلاده المؤهلات اللازمة ليلعب دور المضيف لأى زائر مهم من الفضاء الخارجى.

 

وقد صدق حدسى ودقة تحليلى منذ أيام قليلة عندما فوجئت بوزير داخليتى يندفع داخلاﹰ مكتبى وهو يصيح كالمعتوه: “سيدى، سيدى، حصلت حاجة غريبة والله!”

 

قلت وعلى وجهى إبتسامة العارف ببواطن الأمور: “تقصد تقول واحد من المريخ نزل عندنا؟”

 

قال والدهشة تكاد تقفز من عينيّه: “كيف عرفت بالحصل ده يا سيدى؟”

 

ولكى أبرهن له أننى أعرف أكثر من ذلك قلت: “وكمان قال تأخدوه لمقابلة زعيمكم، مش كده؟”

 

ورد الوزير فاغراﹰ فاه: “والله ده اللى طلبه بالضبط”.

 

سألت وأنا أتصنع عدم الاهتمام: “وين هو دلوقت؟”

 

فأجاب: “هو نزل فى ميدان ابو جنزير وأنا رحت هناك وأخدته طوالى للوزارة للتحقيق معاه عشان ما عنده تأشيرة دخول وكمان ما عنده تأشيرة خروج من المريخ. أما الناس المنتظرين فى الميدان فقاموا هاجمين على مركبته مفتكرنها حافلة جديدة للمواصلات.. والله خليتهم متشاكلين فى تسمية خط سيرها. واحدين مصرين على أنها لخط الكلاكلة – زحل وناس حالفين طلاق انها لخط الثورة -عطارد بالنص”.

 

فقلت له بحدة: “لازم توقفوا العبث ده فورا..وحسع امشى جيبوا هنا طوالى لمقابلتى”.

 

هرول الوزير خارجاﹰ وبدأت أجوب مكتبى والأفكار تتزاحم فى ذهنى عن الخبطة الإعلامية التى سيثيرها هذا الحدث العظيم. ناديت مدير مكتبى وطلبت منه إحضار المزيد من المكروفونات والإتصال بمحطة الاقمار الصناعية لتكون على أهبة الإستعداد لبث الحدث عالمياﹰ. كما وجهت بتجهيز المولد الاحتياطى تحسباﹰ لإنقطاع الكهرباء المعتاد ففى مثل هذه المناسبات النادرة لا ينبغى أن تترك الزيارة انطباعاﹰ سلبياﹰ.

 

سألنى مدير المكتب: “سيادتك عايز نجهز حاجة خاصة للزائر المريخابى؟”

 

 

 

فنهرته قائلا: “اوعك تجيب صفة (مريخابى) تانى. عاوز الطيب عبدالله وبكرى عثمان يطلعوا لينا مظاهرة احتجاج”.

 

بعد فترة عاد وزير الداخلية وبصحبته مخلوق صغير لا يزيد طوله عن القدمين وله رأس ضخم و رقبة طويلة وذراعان تكادان تلامسان الإرض ورجلان قصيرتان للغاية ولاحظت من أول وهلة أن نوراﹰ يشع من سبابة ييده اليمنى. وشعرت بألم حاد فى ظهرى وأنا أنحنى لمعانقة ضيفى القادم من المريخ والذى بدأ عليه الارتباك والاضطراب. كنت على وشك أن أنبهل فى خطبة ترحيبية عصماء عندما طرأ فى ذهنى أن ثمة حاجز لغوى قد يقف حائلاﹰ بيننا. فسألت المخلوق الصغير: “أى لغة يتحدث حضرتكم؟” فأجابنى بلغة عربية تغلب عليها اللهجة السودانية: “لقد تمت برمجتى للتحدث بأى لغة موجودة على الأرض ولكنى شخصياﹰ أفضل التحدث باللغة اللاتينية”.

 

تنحنحت وأنا أقول: “والله كان بودى ادردش معاك باللاتينى ولكن فى مثل هذه المناسبات أفضل الحديث بلغتنا الرسمية”. فهز رأسه موافقا فإعتدلت فى جلستى وأنا أنظر لغابة المكرفونات المزروعة أمامى وقلت بصوتى الخطابى المشهور: “أسمح لى أيها الزائر الكريم أن أعبر لك عن عظيم امتناننا لإختيارك الهبوط عندنا وزيارة بلادنا المضيافة..”

 

وقبل أن أتابع خطبتى قاطعنى والتعاسة تبدو على وجهه: “الحقيقة انا جيت هنا عشان ما فى بلد تانى قِبل يستقبلنى”.

 

شعرت وكأن دشاﹰ بارداﹰ قد صُب علىّ وقلت وأن أحاول أن أتمالك نفسى: ” ليه الحصل شنو؟”

 

فأجاب: “والله دى قصة طويلة فبعد بداية رحلتى نزلت اولا فى مكان يسمى (الميدان الأحمر) ولكنهم ادونى كم شلوت ورمونى داخل مركبتى وأخبرونى ان أغادر المكان فورا وقالوا ان آخر واحد حاول ينكت عليهم بالنزول بمركبته فى الميدان الأحمر قضى اكثر من تسعة أشهر فى سجن موسكو. الحقيقة كان الموقف غير مضياف من جانبهم”.

 

وبالطبع لم يكن مثل هذا التصرف الأخرق غريباﹰ على الروس الأوباش ولكنى لم اقل ذلك له وانما سألته: “وعملت شنو بعد داك؟”

 

فقال: “انطلقت بمركبتى ونزلت بالقرب من مكان يسمى (البيت الأبيض) ولكنهم اخبرونى ان المكان محظور فرجوتهم ان ياخذونى لزعيمهم فقالو أنه مسافر خارج البلاد والزول الماسك مكانه هونائب الرئيس ويدعى (دان كويل) وطلب منى واحد يبدو أنه رئيس الأمن عندهم بمغادرة المنطقة فورا الا اذا كنت أنوى اغتيال المدعو (كويل) فقلت لهم انا زول سلام و مش زول كتل وسألتهم اين يمكن ان اذهب قعدوا يضحكوا وقالوا لى ان أفضل مكان هو ساحة (تيان آن مين) فى مكان يسمى بكين”.

 

سكت المخلوق الصغير برهة ويهز رأسه بأسى وقال بنبرة حزينة: “يبدو أنهم افتكرونى اكبر نكتة مشت على الأرض منذ..” ولم يكمل عبارته وإنما نظر بتوجس الى وزير داخليتى!

 

فكرت فى ذلك التصرف غير الإنسانى والذى يعكس غرور وغطرسة الأمريكان الأمبرياليين. ولكنى فى تلك اللحظة كنت قد أصبحت مشدوداﹰ للقصة الغريبة التى يرويها الزائر من المريخ. فسألته وحب الاستطلاع قد تمكن منى: “وهل طِرت لبكين؟”

 

فأجاب: “ايوه طرت طوالى على هناك ولكنى وجدت ساحة (تيان آن مين) مليانة بآلاف الشبان وهم يكوركو ويهتفوا وعاملين جوطة كبيرة وواحد منهم واقف قدام دبابة وحالف ما يزح جا والا جاى. وبينى وبينك خفت وقبل ما انزل واطلب منهم ياخدونى لزعيمهم خفت ياخدونى للزول الواقف قدام الدبابة. رحت يا زول مخرم وتابعت طيرانى طوالى”.

 

فسألته: “ورحت وين من هناك؟”

 

قال: “والله حاولت النزول فى أكثر من مائة مكان وفى كل حته كانت يلاقينى نفس المواقف العدائية. يعنى ما فى زول كان مستعد يستقبانى والظاهر أنهم كلهم لم ياخذونى مأخذ الجد”.

 

رأيت الدموع ترقرق فى مقلتيه وتابع حديثه بصوت تخنقه لعبرات: “وبعد محاولات كتيرة نزلت فى مكان قريب منكم فى حته اسمها (أديس أبابا) وطلبت منهم ياخدونى لزعيمهم فقالوا الايام دى مشغول بالجماعة اللى كانوا سيخلفونه فى الزعامة والظاهر عامل ليهم عزومة عشا او حاجة زى كده. فقلت ليهم ياجماعة حسع امشى وين فقالوا احسن اجى عندكم عشان بلدكم مشهورة بالكرم والضيافة وكل من هب ودب داخلين طالعين ولا من درى ولامن شاف”.

 

ونظر الىّ المخلوق الصغير من خلال عينيه الدامعتين وقال: “وكمان ذكروا حاجة كويسة عنك انت شخصيا”.

 

فسألته وقد إنفرجت أساريرى وأنا لا أكاد أخفى لهفتى: “حاجة كويسة عنى؟ قالوا شنو بالضبط؟”

 

فأجاب: “قالوا انك راجل متمهل فى قراراتك وعندما يجئ الوقت لاتخاذ قرار بشأنى تكون الدنيا انقلبت”.

 

حاولت ان أخفى خيبة الامل التى شعرت بها فقد كنت أتوقع أن يسهبوا فى وصف مزاياى وانجازاتى “بتوضيحاتها”. وسألته أنا أحاول التظاهر بالحسم: “وما هى مهمتك بالضبط؟”

 

قال وهو ينظربحزن الى سبابته المضيئة” “كل ما اردته من الرحلة دى ان اجد بعض الاطفال لالعب معهم”.

 

شعرت بموجة من العطف والحنان تملأ جوانحى فهذا المخلق المسكين لا يريد اكثر من اطفال يلعب معهم. قلت له بإبتسامة حنية: “دى حكاية بسيطة وحنجهزها لك بعد التشاور مع الجهات المعنية طبعا. وحتى نصل الى قرار فى هذا الموضوع احب ان اؤكد ليك اننا نرحب بك فى بلادنا”.

 

قال والحزن لا يزال مخيماﹰ عليه: “انا ذاتى فى الاول افتكرت كده ولمن نزلت ميدان ابوجنزير الناس جات جارية علىّ ولكن اكتشفت ان اهتمامهم كان فى المركبة بتاعتى وبس ورجوتهم ياخدونى لزعيمهم ولكن الناس كلها قعدت تتدافر وتتشاكل لركوبها. الحكاية شنو انتو ما عندكم مركبات فضائية؟”

 

اجبته من غير أى لف او دوران: “طبعا عندنا بس الأيام دى فى شوية مشكلة فى البنزين”.

 

ولحسن الحظ كان واضحاﹰ أن المخلوق لم يفهم ما قلته وبدأ يفرك أصابعه الطويلة فى عصبية واضحة ثم قال بنبرة مرتعشة وهو يشير متوجساﹰ لوزير الداخلية: “وبعدين الزول ده جاء وطلب يشوف تأشيرة الخروج فى باسبورتى. والله أنا لغاية حسع ما فاهم حكاية الباسبورت وتأشيرة الخروج دى شنو؟ بس زولكم ده استمر يصرخ وهو يردد كلمة “أمبو” وهددنى بانى لو كنت محظور من السفر من بلدى ما حيسمح لى بالمغادرة”. وصمت برهة ليمسح العرق المتصبب على جبينه وقال وكأنه يتمتم لنفسه: “يا ريتنى ما سمعت كلام ناس (أديس أبابا)”.

 

شعرت بموجة جديدة من العطف تجتاحنى فأخبرت المخلوق الا يهتم بموضوع التأشيرة ونظرت لوزير الداخلية شذراﹰ وأنا أقول: “أما بالنسبة لتصرفات الوزير فسأقوم بتشكيل لجنة للتحقيق معه”. وهنا أصفر وجه الوزير وقال وهو يرتجف: “أنا غلطان يا سيدى والحكاية دى امسحها فى وشى بس خلينى من حكاية لجنة التحقيق دى”. فقلت على الفور: “خلاص معليش نعملها لجنة تقصى حقائق”.

 

التفتٙ نحو الزائر الفضائى وقلت وإبتسامة بشوشة تظلل وجهى: “والآن يا ضيفنا الزيز عاوز نعمل ليك شنو عشان نخلى اقامتك معنا مريحة ويعيدة؟”

 

ولدهشتى البالغة أجاب المخلوق بصوت خافت وهو ينظر الى الأرض: “عاوز ارجع بلدى”

 

ولم أدر ماذا أقول وعندها إنحنى وزير الداخلية نحوى وهمس فى اذنى: “والله يا سيدى أنا خائف المركبة بتاعته تكون ما موجودة فبالطريقة اللى الناس كانوا متزاحمين فيها يمكن حسع تكون قطعت نص المسافة الى زحل او عطارد!”

 

ويبدو أن المخلوق قد سمع ما قاله الوزير فقد رفع رأسه وقال: “ما تنزعجوا بخصوص طريقة رجوعى لبلدى”.

 

نظرت اليه مستفسراﹰ فتابع حديثه وهو يضع سبابته على فمه: “كل الدايرو منكم تتصلوا بواحد فى هوليوود اسمه (ستفين سبيلبرج) وتحكوا ليه المصيبة اللى انا فيها دى وتقولوا ليه إى تى” (E.T.) بيقول ليك التوبة لى حبوبة تانى ما حطلع براى من الاستديو ولو قطعوا رقبتى الطويلة دى……”

 

السبت ۲٤ يونيو ۱۹۸۹

 


Back to Top