Mohamed Beshir Hamid

التفويض

يسخر المقال من الوضع السياسى فى ذلك الوقت الذى إتسم بالمناورات الحزبية والأزمات السياسية بين زعماء الأحزاب الرئيسية (الصادق المهدى رئيس الوزراء وزعيم حزب الأمة، ومحمد عثمان الميرغنى راعى الحزب الإتحادى الديمقراطى والشريك الأصغر فى حكومة الصادق الائتلافية، وحسن الترابى زعيم الجبهة الإسلامية القومية وصهر الصادق المهدى). وكانت الحكومة الائتلافية ضعيفة لدرجة الشلل وطالب الصادق المهدى وقتها بإعطائه تفويضا جديدا لتقوية موقفه السياسى بينما سعت الجبهة الإسلامية لتفكيك الائتلاف القائم وإثارة مناخ من عدم الإستقرار.

 

الايام ٤ أبريل ۱۹۸۸

 

التفويض

 

لابد أن عطباﹰ خطيراﹰ قد أصاب “تفويضى” فقد توقف فجأة وبدون سبب واضح عن العمل. وقمت بفحص كل الأسلاك والتوصيلات الكهربائية ووجدتها على ما يرام. وكان فى تصورى أن بإمكانى إصلاح العطب كما حدث عندما أصاب “التفويض” خلل مرتين. قمت بفحص “التفويض” مرة أخرى بعناية وتأنى مستعيناﹰ بالرسوم التوضيحية فى مرشد الإستعمال الخاص بالتفويض ولكن وبعد جهد مُضن لم أتمكن من إصلاح “التفويض” الذى ظل قابعاﹰ فى مكتبى وعيونه الاكترونية تحدق فىّ شذراﹰ. وفى النهاية قررت الإتصال بمدير “المؤسسة الإتحدية للإعمال الديمقراطية العاجزة” وهو الشريك الأصغر فى شركة أعمالى الإئتلافية للتوجهات الإختلافية غير المحدودة” واستغرق الأمر منى بعض الوقت قبل أن أتمكن من الاتصال به هاتفيا.
قلت له وأنا أحاول أن أخفف من وقع المشكلة: “هالو عزيزى (ميمى)، أننى آسف لإزعاجك فى مثل هذا الوقت ولكن يبدو أن هناك مشكلة بسيطة تتعلق (بتفويضى)”.

 

ومضت فترة خلتها دهراﹰ قبل أن يرد (ميمى) قائلاﹰ فى لهجة حادة: “أتقصد أن تقول (تفويضنا)؟”

 

فسارعت بالإجابة : “أجل هذا ما قصدته حقيقة، فهو بالضبط (تفويضنا). ألسنا شريكين حميمين؟ أليس لى بحكم الشراكة نصف ما تملك؟ وأليس لك نصف…” وإستدركت قبل أن أسترسل فى الحديث وأجد نفسى قد تورطت فى إلتزام لا تُحمد عقباه وقلت: “على أى حال فان التفويض قد تعطل فجأة”.

 

فسألنى بنبرة تنضح بالشك والريبة: “وماذا فعلت له هذه المرة؟”

 

وأجبته بكل الصدق: “لا شئ فى حقيقة الأمر فقد كنت فقط أقوم بوضع اللمسات الأخيرة لآخر تصوراتى لميثاق الشركة الانتقالى وذلك بعد أن انتهيت من إعاد مسودة القوانين البديلة. ويبدو أن (التفويض) قد تعرض فى تلك اللحظة لإرتفاع مفاجئ فى الحرارة فبدأ ينفث الدخان ويصدر أصواتا تشبه صياح الديك: كوكا كوكا كوكا دام وبد حشرجة أخيرة همدت الحركة فى أوصاله”.

 

سألنى (ميمى) ونبرة الشك فى صوته قد ازدادت عمقاﹰ ووضوحاﹰ: “أقمت بتحميل (التفويض) ما ليس بطاقته كمحاولة محو آثار السيمفونية المايوية فى السلم الخماسى؟”

 

وأجبته على الفور: “أبداﹰ والله لم أحاول ذلك اطلقاﹰ. فأنا أعرف أن (التفويض) لا يستحمل مثل هذا الضغط العالى. ثم أننى بالطبع لن أفعل شيئاﹰ من هذا القبيل قبل إستشارتك أولا”.

 

سألنى وكأن الأمر لا يعنيه: “وماذا الذى تنوى أن تفعله؟”

 

قلت وأنا أختار كلماتى بحذر: ” أسمع يا عزيزى (ميمى) لقد فكرت فى الأمر وأرى أن نجتمع أنا وأنت ونفحص (التفويض) معا ويمكننا أن نقوم بنقل الأجزاء المعطوبة أوالمعطلة الى أماكن آخرى داخل الجهاز بحيث لا يتعدى الأمر تغيير فى المواقع من غير إخلال بالتركيبة الأساسية ثم نعيد توصيل الأسلاك وضبط التيار ونأمل بعد ذلك وفيكم البركة أن يعمل الجهاز من جديد”.

 

أجاب (ميمى) بحزم لم أتعوده: “لا أعتقد أن أية محاولة للإصلاح من هذا القبيل ستنجح فقد حاولناها مرتين من قبل وفى كل مرة تصر على أن تقوم أنت لوحدك بعملية الترقيع”.

 

كان محقاﹰ فيما ذكر ولكنى لم أخبره بذلك فليس من طبيعتى أن أعترف لأى شخص بأنه على صواب إذ أن ذلك يعنى تلقائياﹰ أننى على خطأ. وبعد تفكير عميق إقترحت عليه أن نقوم بشراء قطع غيار جديدة (للتفويض). ولكن (ميم) فأجأنى بقوله: “أتدرى ماذا يعنى ذلك؟ أنه يستدعى الرجوع للمصنع الذى قام أساساﹰ بتركيب (التفويض)”.

 

بالطبع أدركت فوراﹰ أن الرجوع للمصلع يشكل معضلة مستعصية الحل ويدخلنا فى متاهات لا أول لها ولا أخر. وليس ذلك بسبب شح أو غلاء قطع الغيار فهى متوفرة ورخيصة والحمد لله وليست كالخبز أو الصابون أو البنزين والعياذ بالله. ولكن المشكلة هى كيفية جمع مجلس إدارة المصنع للتفاوض معهم بشأن قطع الغيار المطلوبة فلم أكن فى حاجة لمن يذكرنى أن اسم المصنع هو “المؤسسة التأسيسية للمتغيبين”.

 

وأنا أفكر فى هذه الكارثة الجديدة أتانى صوت (ميمى) عبر الهاتف وهو يقول: “واذا قررت الرجوع للمصنع لشراء قطع الغيار فلا بد أن نقوم أولاﹰ بإعادة النظر فى مذكرة عدم التفاهم المبرمة بين مؤسستى وشركتك”.

 

امتعضت غاية الإمتعاض من هذا الاسلوب غير التفاوضى فما الداعى لنبش موضوع “مذكرة عدم التفاهم” فى هذا الوقت بالذات؟ ولكن يبدو أن ثقته غير المتناهية فى نواياى لا حدود لها.

 

فقلت وأنا أحاول أن أدير دفة الحديث مرة أخرى لمشكلة قطع الغيار: “ولكن كيف يمكننا أن نعقد أجتماعاﹰ كامل النصاب ؟”

 

وإقترح (ميمى) أن أقوم بتوجيه المراقب المالى بإستيراد مجموعة جديدة من سيارات (الكرسيدا) وتوزيعها على الأعضاء ولكن كان تقديرى أن تصرفاﹰ من هذا القبيل يمكن إعتباره كعمل “غير أخلاقى” وقلت له: “أنهم لم يتمكنوا بعد من بيع كل السيارات التى وزعناها ليهم عندما احتجنا لأصواتهم آخر مرة وحرام أن نثقل عليهم بتوزيع دفعة آخرى وكأننا نحثهم على احتراف التجارة”.

 

فكر (ميمى) وقدر ثم فكر وقدر ثم صاح قائلاﹰ: “وجدتها! وجدت! لماذا لا ننظم لهم مهرجاناﹰ (لزواج الزهراء)؟”

 

وبغريزتى التى لا تخطئ تيقنت على الفور أن هذا الاقتراح هو مفتاح الحل. وودت من كل قلبى تهنئة (ميمى) على هذا الذكاء المتقد الذى لم أعهده فيه من قبل. ولكنى قررت أن لا افعل فتهنئته تعنى بالضرورة الانتقاص من ذكائى. ثم أن التهنئة قد تثير شكوكه أو تزيد من طموحاته. فقلت وأنا أحاول أن أخفى حماسى المتدفق لإقتراحه: “انها فكرة لا بأس بها ياعزيزى وأعتقد انها تستحق المحاولة. على أى ساقوم بتنفيذها ودعنا نرى ماذا تكون النتيجة”. أخبرنى أن أظل لى اتصال دائم به “لوضعه فى الصورة” وحذرنى قبل انهاء المحادثة الا أقوم بعمل أى شئ من خلف ظهره.

 

بدأت أفكر وأنا أشحذ ذقنى: انها فعلاﹰ فكرة رائعة، مهرجان حافل (لزواج الزهراء) من إنتاج واخراج وتمثيل العبد لله. ان احداﹰ لن يفوت فرصة المشاركة فى مثل هذا المهرجان وبالذات أعضاء “المؤسسة التأسيسية للمتغيبين” والذين سيكون عدم تغيبهم ملفتاﹰ للأنظار فى هذه المناسبة.

 

نظرت الى (التفويض) المعطل القابع فى ركن مكتبى وبدأ لى بالياﹰ وعاجزاﹰ. تملكنى شعور بالكراهية نحوه وإنتابتنى رغبة جامحة فى التخلص منه. ولكن كيف؟ وفجأة ومضت فى ذهنى فكرة جهنمية، فبدلاﹰ من أن أطلب قطع غيار للتفويض القديم سأطالب بتفويض جديد بمواصفات جديدة. وقمت على الفور بكتابة المواصفات قبل أن أنساها. أولاﹰ: يجب أن يكون للتفويض طاقة تنفيذية عالية وبضمان كاف لمدة عامين على الأقل. ثانياﹰ: أن يكون إستعمال التفويض وقفاﹰ على شخصى فقط. ثالثاﹰ: أن لا يسألنى أحد عن كيفية وماهية إستعمال التفويض.

 

وبعد أن فرغت من كتابة المواصفات فركت يداىّ اعجابا بما توصلت اليه عبقريتى. ولم أتمالك نفسى من الضحك وأنا أتخيل منظر شريكى (ميمى) وهو يسمع بهذا المقلب، فالمسكين لن يستطيع أن يلوم أحداﹰ على غفلته فقد كان بمقدوره الاحتفاظ بفكرة مهرجان (زواج الزهراء) لنفسه. وبدأت أروح وأغدو فرحاﹰ فى مكتبى وأنا أردد الخطبة العصماء التى سأطالب فيها بالتفويض الجديد فى الاحتفال المرتقب.

 

وأنا مندمج فى تهويماتى سمعت طرقاﹰ على الباب ودخل المدير التنفيذى لمكتبى وقال لى هو يرتعد خوفاﹰ: “سيدى ان صهرك قد جاء يطلب مقابلتك”. صحت فى مدير مكتبى وأنا أستشيط غضباﹰ: “أنت تعرف جيداﹰ العداء والكراهية بينى وبين صهرى وتعرف أننى لا أطيق رؤيته ولا سماع مزاوداته الدينية. لماذا لم تخبره أن يذهب لحاله ويتركنى لحالى؟”

 

تلفت مدير المكتب يمنة ويساراﹰ ثم قال كالمذهول: “سيدى انه يقول انه أتى خصيصاﹰ لينظم معك ترتيبات مهرجان (زواج الزهراء)”. ألجمت الدهشة لسانى: كيف عرف الداهية بخطتى وبهذه السرعة المريبة؟ لا بد أن شريكى الخائن لم ينتظر طويلاﹰ قبل تسريب الخبر اليه.

 

وإنتبهت وأنا فى هذه الدوامة لصوت مدير مكتبى وهو يقول فى حيرة: “سيدى ماذا أفعل؟ ان صهرك يدعى أن شركته “للتأمينات الأيمانية الأصولية” لها كافة حقوق إقامة مهرجانات (زواج الزهراء)”.

 

يا للعنة! جلست وأنا أفكر فى هذه المصيبة غير المتوقعة. نظرت الى تفويضى المعطل مرة أخرى. وتيقنت فى تلك اللحظة أننى لا أستطيع العيش من غير تفويض جديد ويتوجب أن أكون واقعياﹰ فاذا كان ثمن حصولى على التفويض الجديد هو أن أعقد صفقة مع صهرى المناكف فليكن. فمواقفى المبدئية التى لا أحيد عنها قيد أنملة ليست بتلك الدرجة من التصلب.

 

وبعد أن هدأت خواطرى طلبت من مدير مكتبى أن يسمح له بالدخول وكست وجهى ابتسامة عريضة وأنا أهب لاستقباله بالأحضان وأنا أردد: ” أين كنت طوال هذه السنين يا “مستشارى” الأوحد والأمين؟”

 

 

الايام ٤ أبريل ۱۹۸۸


Back to Top