Mohamed Beshir Hamid

ملامح من سياسة السودان الخارجية

ملامح من سياسة السودان الخارجية:

من ʼالعزلة المجيدةʻ والفورة الثورية ٳلى ʼالحالة الفِنْلَنْديَّةʻ

 

محمد بشير حامد

 

ٳن السياسة الخارجية للحكومات السودانية المتعاقبة منذ فترة تقرير المصير ٳتسمت بنهج غريب تغيرت فيه السياسات أو تم ٳجهاضها بطريقة توحى بغياب أى استراتجية متجانسة أو طويلة المدى. فالحكومة الوطنية الأولى برئاسة اسماعيل الأزهرى التى جرى انتخابها تحت شعار “وحدة وادى النيل” فى نوفمبر ١٩٥٣ انتهى بها المطاف بِتبنِّى الاستقلال الكامل فى ديسمبر ١٩٥٥. وبالرغم من السجل المتناسق نسبيا فى العزلة الذاتية وتجنب الارتباطات والتعقيدات الخارجية –وقد يكون بسببها- فقد تمكنت حكومة عبود العسكرية من اهدارالسوانح الطيبة التى تمتعت بها بداية فى علاقتها مع مصر وإلى استعداء جيرانها من الدول الافريقية بسبب سياسة الكبت التى مارستها فى جنوب السودان. والسياسة الخارجية الرادكالية التى انتهجتها الحكومة الانتقالية الأولى فى أكتوبر ١٩٦٤ تحولت بحلول يوليو ١٩٦٥ الى تراجع متسارع نحو توجه يمينى محافظ. أما حكومة الرئيس النميرى فقد فاقت كل سجلات السياسة فى التحول من سياسية خارجية موالية للاتحاد السوفيتى فى نهاية ستينيات القرن ٳلى تبعية للغرب فى منتصف سبعينياته فى مسار متوازٍ – لعله لم يكن وليد الصدفة – لتوجه السياسة الخارجية لمصر الساداتية.

 

ان التفسير لهذه الظاهرة قد يكون فى أن السياسة السودانية قد تجاذبتها دائما مصالح داخلية وخارجية متباينة أدت الى بعض الضبابية والغموض فى علاقات السودان مع العالم الخارجى . فسياسات السودان الخارجية منذ الاستقلال لم تشكلها فى كثير من الأحيان المصلحة القومية بقدر ما أثرت فيها المصالح الذاتية للانظمة المتعاقبة والتى كانت بدورها متقلبة وفقا لمتغيرات الظروف الداخلية والتطورات الخارجية.

 

تتطرق هذه الدراسة لثلاثة جوانب من سياسة السودان الخارجية: ʼالعزلة المجيدةʻ (‘Splendid Isolation’) لنظام عبود ورادكالية حكومة أكتوبر الأولى وʼفنلنّدنةʻ (‘Finlandization’)السياسة الخارجية لنظام نميرى فى علاقته بمصر(١).

 

وتعبير “العزلة المجيدة” (‘Splendid Isolation’) يرجع تاريخيا الى السياسة الخارجية لبريطانيا ٳبان القرن التاسع عشر حيث تحاشت الامبراطورية أى تحالفات او ارتباطات خارجية دائمة ليس رغبة فى الانطواء والعزلة وانما للمحافظة على توازن القوى فى أوربا بحيث تلقى بثقلها السياسى والعسكرى تلقائيا مع الدول أو المعسكر الأضعف نسبيا وتحول بذلك دون هيمنة معسكر على آخر (عملا بمقولة لورد بالمرستون الشهيرة: “ليس لبريطانيا العظمى اصدقاء أو أعداء دائمون وأنما لها مصالح دائمة”). ولعل استعمال هذا التعبير فى وصف السياسة االخارجية لنظام عبود لا ينطبق تماما على هذا السياق التاريخى وإنْ انسجم مع المعنى العام. ولعل التوازن الذى سعى اليه النظام لم يكن “مجيدا” بمعنى تنفيذه لاستراتيجية مدروسة بقدر ما كان سلبيا فى حرصه المتهافت على تجنب استعداء أى دولة أو معسكر خارجى بقدر الامكان. كما أن سياسة العزلة والانطواء داخليا التى اتبعها النظام لم تساعد على حل مشاكل السودان الداخلية أو تؤدى لتحسين صورته الخارجية فتشبيه الزعيم الغينى سيكو تورىٍ (Sekou Touré) للسودان “برجل أفريقيا المريض”لم يكن فيه الكثير من التجنى.

 

ولعل رداكالية (Radicalization)السياسة الخارجية فى أعقاب ثورة أكتوبر كانت ردة فعل للطبيعة المحافظة والسياسة الانعزالية للنظام الذى أطاحت به. ويمكن وصف الفورة الثورية التى اتسمت بها تلك السياسة بأنها الفترة التى بُذل فيها مجهود دؤوب لتحقيق المواءمة بين الممارسة الفعلية والمُثُل والأهداف المعلنة للسياسة الخارجية. ولكن تلك السياسة انتهت أيضا الى استعداء جيران السودان فى وقت اشتدت فيه الخلافات والصراعات الداخلية وبدا وكأن التعاطي المفرط فى الارتباطات والالتزامات الخارجية لا يقل فعالية فى هزيمة أهداف السياسة من الانزواء الذاتى المخِل.

 

وترجع أصول تعبير (‘Finlandization’) للغة الالمانية (Finnlandisierung) وتمت صياغته فى منتصف ستينيات القرن الماضى لوصف الوضع الذى تمارس فيه دولة أقوى نفوذا على السياسات الخارجية لدولة مجاورة أصغر،وهويعنى حرفيا (يصبح مثل فنلندا) فى اشارة لنفوذ الاتحاد السوفيتى على سياسات فنلندا خلال فترة الحرب الباردة. فقد كان على فنلندا، مع محافظتها على سيادتها ونظامها الديمقراطى السياسى، ان تتَّبع سياسة خارجية تراعى المصالح والمطالب الاستراتيحية للاتحاد السوفيتى. ويستعمل التعبير فى هذه الدراسة بمعنىً مشابه وٳن يك غير مطابق تماما للحالة الفنلندية، ففى الحالة السودانية أدت علاقة نظام النميرى اللصيقة بالنظام المصرى ٳلى وضعٍ تحكمه أيضا الأعتبارات الاستراتيجية والأمنية مما حدّ او قلص بقدر كبير خيارات السودان فى السياسة الخارجية. كما شكل ذلك الارتباط خروجا بيِّناً على تقاليد السياسة الخارجية السابقة والتى حافظت بشكل أو بآخر على سياسة خارجية مستقلة نسبيا سواء أكان ذلك سلبيا أو إيجابيا وعلى عدم انحيازله أهميته وقيمته الدبلوماسية فى المجال الحساس للعلاقات بين الدول العربية.

 

وفى المراحل الثلاث التى تتعرض لها الدراسة كان المحرك المحورى والدافع الخفى للسياسة الخارجية لحد كبير هو المصالح الذاتية للنظام الحاكم حينها.

 

فترة ʼالعزلة المجيدةʻ (١٩٥٨ – ١٩٦٤):

 

كانت أهم ملامح السياسة الخارجية لنظام عبود العسكرى غياب أى ارتباط نشط او طويل المدى فى العلاقات الخارجية (٢). وحافظ النظام على أرثودكسيَّة دول العام الثالث التى اتَّبعتها الأنظمة السابقة فى الوقوف الى جانب “السلام العالمى والوحدة الأفريقية والوحدة العربية وكل الدول المناضلة فى سبيل الحرية الخ”. ولكن عمليا فإن السياسة الخارجية للطغمة العسكرية تميزت بعدم اكتراث كبير بالشئون الخارجية، فقد ظل السودان بمعزِل عن المعسكر العربى الراديكالى لميثاق الدار البيضاء وكذلك عن تجمع بلدان مؤتمر منروفيا المحافظ.

 

وكان الهدف الرئيسى للسياسية الخارجية هو التماس وجذب المعونة من أى جهة ترغب فى منحها مما جعل من الضرورى أتباع سياسة معتدلة ومتوازنة تجاه العالم الخارجى. . فقد بدا أول بيان للسياسة الخارجية الذى أعلنه الوزير أحمد خيرفى نوفمبر ١٩٥٨فى بعض جوانبه وكأنه ٳعلان تجارى، فوعد بزيادة التعاون السياسى والاقتصادى والثقافى مع كل الدول وخلق مناخ مواتٍ لجذب المساعدات والاستثمارات والتعامل تجاريا مع “كل الأقطار على اساس المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة”. وفى مقابلة مع الصحفى الهندى باركاش شانديا فى ديسمبر قال عبود “ان السودان سيَّتبع سياسة الحياد الايجابي وعدم الانحياز وسيقبل اي هدية وأي مساعدة من اي حكومة ما دامت ليست بشروط تؤثر على استقلال السودان وسيادته”(٣).

 

وفى ٢٩ نوفمبر ١٩٥٨ اكد النظام العسكري الموافقة على اتفاقية المعونة الأمريكية والتى كانت قد فجرت أزمة سياسية فى البرلمان قبيل الأنقلاب والتى ربما كانت عاملا فى قرار تسليم السلطة للجيش وأصبح البنك الدولي والمانيا الغربية وبريطانيا وايطاليا من المانحين المميَّزين للمعونات والمساعدات التقنية. وقام النظام كذلك بالتماس الاعتراف والمعونة من الكتلة الشرقية فى محاولة لانتهاج سياسة متوازنة فى صلاته الاقتصادية مع الغرب. فمن أوائل الخطوات فى السياسة الخارجية قام النظام بالاعتراف بالصين الشعبية والتفاوض حول اتفاقيات تجارية مع الاتحاد السوفيتى ويوغسلافيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبحلول ١٩٦١ أضحى السودان متلقيا للمعونات من مصادر عدة.

 

ولم تكن سياسة عدم الانحياز التى أعلنها عبود فى أول مؤتمر صحفى له وليدة قناعة عقائدية أو استرتيجية دبلوماسية كما تبلورت فى حركة الحياد الايجابى فى العالم الثالث من المبادئ الخمسة لمؤتمر (باندونج) فى عام ١٩٥٥، بل كانت كما فسرها وزير الخارجية أحمد خير “مجرد وسيلة لكسب الأصدقاء”(٤). لقد شجعت زيارة عبود للولايات المتحدة فى عام ١٩٦١ تطور العلاقات الثنائية وكذلك فعلت زيارته للاتحاد السوفيتى فى العام ذاته وزيارة شوين لاى (Zhou En-lai) للسودان فى يناير ١٩٦٤. ولكن تلك الزيارات لم تعنِ أكثر من ابراز شهادة بعدم الارتباط من دون أن يرقى ذلك ٳلى الالتزام أوممارسة للحياد بمفهومه الايجابى كبديل ثالث فى العلاقات الدولية للاستقطاب الثنائى لكتلتى الغرب والشرق.

 

هذا الموقف الغامض فى بعض جوانبه انعكس أيضا فى مجالات اخرى فى العلاقات الخارجية. ففى حين استمر السودان فى تأكيد انتمائه العربى الا أنه فضل الابتعاد قدر الامكان عن القوى التى كانت تتصارع حينها من اجل قيادة العالم العربى وواكب ذلك الابتعاد أيضا عدم حضور فعال فى أفريقيا وتقصير فى تعزيز العلاقات مع الدول الافريقية خاصة فى تفعيل دوره “كجسر بين أفريقيا والعالم العربى” بحكم “علاقات الجوار والدم والمصالح المشتركة” كما جاء فى بعض الصحف السودانية فى نقد علنى لسياسات النظام العسكرى (٥).

 

بدأت العلاقات مع مصربمبادرة ودية فمصر كانت اول الدول إعترافاً بالنظام الجديد وفى أول مخاطبة اذاعية للامة فى ١٧ نوفمبر وعد عبود بتسوية كل المشاكل القائمة مع مصر وازالة “الجفوة المفتعلة” التى خيمت على العلاقات بين البلدين. وقد اعتبر النظام إبرام الاتفاقية الجديدة لمياه النيل مع مصر فى نوفمبر ١٩٥٩ انجازا كبيراً، فقد وافق الجانبان على حصة المياه والتى زادت نصيب السودان نظرياً وعلى التعويض المالى لترحيل النوبيين الذين ستغمُر أراضيهم فى وادى حلفا مياه السد العالى عند اتمامه. وكما اوضح خبير سودانى فى دراسة لاحقة: “وقد أصرّت مصر على دفع 10 مليون جنيه مصري فقط كتعويضٍ للسودان عن كل ما سيفقده في منطقة وادي حلفا جرَّاء بناء السدّ العالي. ولم تنجح توسّلات السودان، الذي أوضحتْ حساباتُه أنه يحتاج إلى 35 مليون جنيه لإعادة التوطين القسري لأهالي حلفا، سوى في زيادة التعويض المصري إلى 15 مليون جنيه. وحدث ذلك فقط بعد رفع الأمر إلى الرئيس عبد الناصر كوسيطٍ بين الطرفين بعد تعنّت الجانب المصري المفاوض. وقد بيّنَت الأيام صدق حسابات السودان، إذ كلّفته إعادة توطين أهالي حلفا أكثر من 37 مليون جنيه، أي بزيادة حوالى 25% مما دفعته مصر”(٦).

 

وبمباركة القيادات الطائفية (حزبى الامة والوطنى الاتحادى) للاتفاقية بدا وكأن ستارا قد أسدِل على أحد مصادر الخلاف مع مصر ومهِّدت الطريق لعلاقات افضل دشنتها زيارة عبود للقاهرة فى يوليو ١٩٦٠ والتى ردّها الرئيس ناصر فى نوفمبر من نفس العام. ولكن ابرام الاتفاقية جر فى أذياله ردود فعل داخلية ذات عواقب وخيمة فاقت أى مزايا قصيرة المدى حصل عليها النظام. أثارت الاتفاقية موجة من الانتقادات فى البلاد وفجرت أول تحدٍ مدنى معلن لسلطة العسكرِتاريا عندما اندلعت فى ١٩٦٠ مظاهرات داوية فى وادى حلفا احتجاجا على قرار الحكومة باعادة توطين ٥٠ ألف من النوبيين المنزوعة أراضيهم فى خشم القربة. ومع ان النظام تمكن من احتواء تللك الانتفاضة الا أن الضرر الذى حاق بسلطته لم يكن من السهل أزالته. وكما ذكر احد المراقبين الأجانب: “فى مواجهة التحدى المعارض اصبح موقف العسكر اكثرتشددا فمشروع اعادة التوطين كان هو المشروع الذي ادّخرته الدولة لإعلاء صِيتِها وبسط هيبتها.ولكن ثمن تلك الهيبة ساعد على إفقار الخزينة العامة، واما سلطة النظام فأُسطورة قد تم الطعن في صِدقِيّة مناعتها بتحدى أهالى وادى حلفا لها ولم تعد بعد ذلك الى ماكانت عليه من قبل”(٧).

 

فى المجال الاقتصادى كان النظام يواجه مصاعب شتى. فقد تصرف العسكر بفعالية لإصلاح المسار الاقتصادى عند استلامهم للسلطة. ففى يناير ١٩٥٩ قامت الحكومة بالغاء السعر الاحتياطى للقطن السودانى وعرضته للبيع باى سعر يمكن الحصول عليه، وبما أن الأسعار العالمية كانت فى حالة ارتفاع عندئذٍ فقد تمكنت من بيع كل المحصول الجديد والمتبقى من الموسم السابق بحلول اغسطس ١٩٥٩ واصبحت البلاد قادرة على سداد مديونتها مع فائض قليل فى الدخل القومى. ولكن هذا التحسن فى الوضع الاقتصادى مع تدفق المعونات الخارجية شجع الحكومة على الدخول فى مشروعات اقتصادية استلزمت صرفا ثقيلا من رصيد العملات الاجنبية مما ادى لوضع البلاد فى مديونية أجنبية عميقة. فقد نتج عن التقديرات المبالغ فيها عجز يزيد عن ٧٥ مليون جنية فى خمس سنوات. وهكذا بدأت الشعبية التى اكتسبها النظام بمبادراته الاقتصادية الأولى تتضاءل إزاء فشله فى التعامل مع التحديات السياسية والاقتصادية التى باتت تواجهه بوتيرة مطّردة. ومع ارتفاع صوت المعارضة تناقصت حساسية النظام بدوافع ومسببات السخط الشعبى وتزايد لجوء الطغمة العسكرية لسياسة العصا الغليظة خاصة فى جنوب السودان لتكتمل بذلك الحلقة المفرغة من فعل وردود فعل متواصلة.

 

وقد انعكست مشاكل النظام الداخلية على سياسته الخارجية. فعلاقة السودان مع مصر أصابها الفتوروأخذت طابعا خلافيا بعد ان كثف الرئيس ناصر فى ١٩٦١ عملية التحول الاشتراكى فى مصر وأزدادت حدة عدائه تجاه الدول المحافظة والمتحالفة مع الغرب. ومما زاد توتر العلاقات بين البلدين مطالبة نظام عبود لمصر بتسديد ديونها العالقة للسودان وهو مطلب عزته مصر وقتها للنفوذ الاستعمارى على السودان والهادف لتقويض السياسات الثورية فى مصر. كما استاء المصريون مما ظنوا أنه عرقلة النظام السودانى بالتعاون مع أمريكا للجهود المصرية لارسال اسلحة ٳلى أنصار لوممبا فى الكنغو. وبحلول ١٩٦٤ ارتدت العلاقات مع مصر الى حالة فقدان الثقة والشكوك المتبادلة التى كانت طابعها قبل وصول نظام عبود للسلطة.

 

ولم يكن تردى العلاقات مقتصرا على علاقته مع جارته فى الشمال بل بدأت علامات التصدع تظهر أيضا فى علاقاته مع بعض جيرانه فى الجنوب بسبب تدهور الوضع الأمنى فى جنوب السودان فقد كان تمرد ١٩٥٥ قد اتخذ شكل عصيان منظم تقوده الأنيانيا (Anya-Nya) وأدت محاولات العسكر لسحقه لتفاقم العنف والعداء وتزايد المقاومة مما أدى بدوره لتدفق اللاجئيين الجنوبيين إلى الدول الأفريقية المجاورة ( يوغندا، جمهورية أفريقيا الوسطى، الكونقو، وأثيوبيا) وولَّد تعاطفا مع قضية الأنيانيا فى تلك الدول. وزاد الوضع تأزما محاولة العسكر حل مشكلة الجنوب بفرض سياسة الأسلمة والتعريب والتى كان من نتائجها أن منحت القادة الجنوبيين سلاحا اعلاميا لشن حملة فعالة فى الخارج تصور مشكلة الجنوب على انها حرب دينية وعنصرية يقوم بها المسلمون العرب فى الشمال ضد المسيحيين الافارقة فى الجنوب.

 

وفى فبراير ١٩٦٤ قام النظام العسكرى بطرد ٣٠٠ من المبشرين المسحيين من الجنوب بتهمة مساعدتهم للمتمردين. وبصرف النظر عن المبرارات التى أدت لاتخاذ ذلك الاجراء فٳن الطريقة الفجة والعشوائية التى تم بها تنفيذه، شأنها فى ذلك شأن كثير من الأمور التى تخص الجنوب، كانت أبعد ماتكون عن طمأنة العالم الخارجى عامة وجيران السودان خاصة بعقلانية وحسن نوايا الحكومة السودانية. ففى يوليو ١٩٦٤وقف متحدث فى البرلمان الاوغندى قائلا: “كيف يمكننا الوقوف فى هذا المجلس لنُدين جنوب أفريقيا والبرتغال فى حين يتم ذبح الناس كالماشية فى جوارنا؟”(٨). وتحدث تقرير للسفارة الأمريكية فى الخرطوم عن “معلومات موثوق بها بان قادة قبائل وزعماء سياسيين في جنوب السودان صاروا، في تزايد مستمر، اكثر غضبا بسبب سياسات الكبت التي يفرضها الشماليون على جنوب السودان. ووصل هؤلاء القادة الجنوبيون الى قناعة بان الجنوبيين لن يقدروا على المحافظة على هويتهم الاجتماعية، والدينية، والثقافية في ظل نظام عبود العسكري الحاكم. ولذلك ومع احتمال انهم ربما كانوا يسعون للإنفصال، خططوا لبداية اتصالات مع دول خارجية لمساعدتهم مثل: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، والدول الافريقية المجاورة، وحتى الامم المتحدة …”(٩).

 

ولعل عدم تدهور علاقات السودان بجيرانه لدرجة أسوأ كان سببه لحد كبير تجنب النظام مساندة ودعم حركات التحرر فى الدول المجاورة والتى كانت فى غالبها ذات توجهات انفصالية. ويمكن تفسير انتهاج العسكر لتلك السياسة بتوخيهم المصلحة الذاتية أكثر من التزامهم بمبادئ التحرر والحرية التى تغَّنت بها دول العالم الثالث. وكما لاحظ احد المهتمين بالشأن السودانى فقد بدأت تظهر معادلات أقليمية، وبصفة خاصة فى العلاقات بين السودان وأثيوبيا، قائمة على نظام غير معلن من “الردع المتبادل من خلال الابتزاز المتبادل” (mutual deterrence through mutual blackmail) الذى أدّى دورا مُقدَّراً فى السنوات اللاحقة فى حفظ السلام الاقليمى وٳن يك ليس بأفضل السبل لبناء قاعدة متينة لعلاقت الجوار الجيدة(١٠).

 

وبحلول عام ١٩٦٤ كان النظام العسكرى يعانى الفشل كحكومة فى الشمال وكجيش فى الجنوب وكان الكبت والعنف الذى صاحب الفشل أو نتج عنه عاملا مباشرا فى إثارة موجة من الغضب والاستياء بلغت ذروتها فى ثورة اكتوبر ١٩٦٤. ووضع المد الأكتوبرى الذى أغرق العسكر نهايةً لعزلة البلاد فى السياسة الخارجية واتجه بالسودان لوجهة مغايرة تماما.

 

النوبة القصيرة من الرادِكالية (١٩٦٤- ١٩٦٥):

 

لم تكن المبادئ العامة الموجِّهه للسياسة الخارجية التى أعلنها رئيس وزراء الحكومة الانتقالية سرالختم الخليفة فى ٣٠ اكتوبر ١٩٦٤ تختلف كثيرا عن توجهات السياسة الخارجية التى اتبعتها الحكومات السابقة. ولكن ما كان مختلفا بالتأكيد هو طبيعة الثورة والقوى التى فجرتها والوجهة التى اتخذتها لفترة قصيرة من الزمن. فقد كانت الاطاحة بحكم عسكرى بواسطة المدنيين حدثا فريدا فى وقت استولى فيه العسكر وحافظوا على السلطة فى العديد من البلاد. وكما ذكر مراقب للاحداث حينذاك: “لقد كانت الثورة حدثاً فريدا فى تاريخ افريقيا إن لم يكن في العالم أجمع. ذلك أنه لم تتحقق بواسطة زمرة منافسة من الضباط أو بجماهير مسلحة من الرعاع او بواسطة سياسيين مدعومين بقوىً خارجية ولكن بمجموعة من المثقفين – طلاب ومحامين قاموا بتعبئة الرأى العام وأقنعو الرئيس عبود وحكومته بالاستقالة”(١١).

 

وحقيقة الأمر فقد كان الجو العام فى الخرطوم فى أعقاب الثورة أقرب مايكون لبلاد تحتفل للتو باستقلالها لا لبلاد مضى على استقلالها تسعة أعوام، فقد كان هناك شبه توافق قومى على المبادئ وشبه إجماع على الأولويات وتمازجَ الاحساس الجماعى بالإنجاز الذى تم مع التفاؤل المتطلع لما يمكن تحقيقه. كان هناك لأول مرة شعور بوضوح الرؤية وبأن الثورة جعلت ممكنا ان لم يكن محتما، بزوغ السودان كقوة ديناميكية فاعلة فى قلب أفريقيا وأقترن هذا الشعور أو نبع عنه عزم وتصميم بألا يكون هناك تناقض او تضارب بين الأهداف المعلنة والممارسة الفعلية فى سياسة السودان الخارجية كما كان قى السابق. تلك على الأقل كانت الرؤية التى استلهمتها القوى التى عارضت حكم العسكر وعانت تحت حكمهم وقادت الانتفاضة الشعبية التى أطاحت به.

 

إن الاطاحة بنظام عبود كانت بالفعل مؤشرا لقطيعة حاسمة مع سياسات العزلة السلبية التى انتهجتها الحكومات السودانية فى الماضى. فمساندة النظام الجديد للحركات الثورية فى الدول المجاورة والتزامه بقضايا التحرر فى العالم الافريقى والأسيوى كان ردة فعل عفوية للطبيعة المحافظة للطغمة العسكرية، ولكن تم تفسيرها وتبريرها أيضا من وجهة نظر المصلحة الذاتية فالسياسة الخارجية الثورية تمت رؤيتها ايضا كضرورة للمحافظة على وتيرة وتناغم مسيرة الثورة فى الداخل.

 

ان الطبيعة السياسية للحكومة الانتقالية أظهرت بوضوح أنها لن تكتفى بقتل الوقت أو تزجيَته في المشاهدة لحين تسليم السلطة لحكومة منتخبة. فبالرغم من أن الحكومة الإنتقالية جاءت للسلطة بسند شعبى واسع الا أنها لم تكن تمثل كل قطاعات المجتمع بالمفهوم الحزبى للتمثيل الديمقراطى. فاغلبية الوزراء جرى ترشيحهم من جانب الجبهة الوطنية للهيئات المهنية والتى برزت للوجود مع اول إرهاصات الثورة لتنظّم وتقود العصيان المدنى والأضراب السياسى الذى أطاح بالنظام السابق. فالجبهة كانت هي السلطة من وراء الحكومة (eminence grise) خلال الخمسة اشهر الأولى وكان للحزب الشيوعى السوداني وحلفائه من اليسارنفوذا طاغيا فيها.

 

ولكن من الخطأ النظر الى السياسة الخارجية التى تلت ذلك على أنها استراتيجية او مؤامرة شيوعية. لقد تنامى نفوذ الشيوعيين كالعادة وهم تحت الحظر والإقصاء ونتيجة لذلك أصبحوا فى طليعة المقاومة لحكم العسكر، وبعد انهياره برزوا كأكثر الأحزاب تنظيما على الساحة وكان طبيعيا أن اتجهوا للتأثير على مجريات الأمور داخليا وفى الشأن الخارجى ولكن بوصول السلطة الى أيدى المجموعات المدنية والمهنية اصبح حتميا توجه السودان نحو اليسار، وفى ذلك المناخ السياسى الجديد اضحى انتهاج توجه جديد ومغايرفى السياسة الخارجية أمرا لا مفر منه(١٢).

 

وسرعان ما اتضحت خطوط التوجه الجديد عندما قرر مجلس الوزراء فى نوفمبر ١٩٦٤ رفض تسهيلات الهبوط للطائرات البريطانية التى تحمل افرادا ومعدات عسكرية فى طريقها لعدن. وأدانت الحكومة هبوط المظليين البلجيكيين فى (ستانليفيل) وتواطؤ الولايات المتحدة فيه ودعت منظمة الوحدة الأفريقية لاتخاذ عملٍ جماعي ضد “العدوان الامبريالى” فى الكنغو. وأهم من ذلك كان قرار الحكومة تقديم الدعم الفورى للثوار الكنغوليين السيمبا ولحركة التحرير الأرترية. وبحلول يناير ١٩٦٥ كانت الأسلحة الجزائرية والمصرية تأخذ طريقها عبر الخرطوم الى ثوار (السيمبا) على حدود السودان الجنوبية.

 

ومن سوء طالع الحكومة السودانية ان شحنات الاسلحة تلك وصلت للثوار الكنغوليين فى الوقت الذى بدأ فيه تراجعهم امام مرتزقة تشومبى البيض وتدفقهم فارين عبر الحدود السودانية. لم تعد أسلحتهم الجديدة ذات فائدة لهم الا للمقايضة مقابل الطعام والشراب وبالتالى وجدت تلك الأسلحة طريقها الى قوات الانيانيا فى الجنوب. وهكذا قوى التدفق المفاجئ للاسلحة فى الجنوب من الموقف العسكرى للانيانيا والتى كانت قد تلقت ضربات موجعة من الجيش السودانى فى الشهور الأخيرة لحكم عبود.

 

والأخطر من ذلك أنه بعد هزيمة ثوار السيمبا بدأت حكومة تشومبى فى تقديم المساعدات والدعم للثوار الجنوبيين. كانت الانيانيا فى الماضى قد وجدت طريقا آمنا للأسلحة عبر يوغندا وكينيا وأثيوبيا ولكن لم تقم أي من حكومات تلك الدول بتقديم المساندة النشطة والعلنية لها. ولعل الدوافع التى حدت بتشومبى لتغييرذلك الوضع ومساعدة الأنيانيا فى جانب منها ثأرى برد الصاع صاعين لحكومة السودان وفى جانب آخر عسكرى بمطاردة فلول قوات السيمبا التى تشتت عبر الحدود السودانية وضمان مساعدة قوات الأنيانيا فى مطاردتها.

 

ان تدخل تشومبى فى الوضع المتردى أمنيا فى الجنوب ادخل عاملا جديدا ومنذرا بعواقب وخيمة فى مشكلة شائكة أصلا لم تكن بحاجة لتعقيدات جديدة، كما أعطى قدرا من المصداقية لاتهامات الخرطوم بضلوع اسرائيل فى مساندة الأنيانيا. وفى مذكرة احتجاج لمنظمة الوحدة الأفريقية فى مارس ١٩٦٥ عن خروقات سلاح طيران تشومبى للمجال الجوى للسودان لفت السودان النظر الى “الادلة التى لا يتطرق اليها الشك لمؤامرة عالمية متشعبة الاطراف من أجل ان تعم الفوضى والتخريب كل الدول الأفريقية المجاورة للكنغو”(١٣). ولكن باستمرار انتهاكات تشومبى لحرمة الأراضي السودانية وتزامُن ذلك مع تردى الوضع الأمنى فى الجنوب، تزايدت القناعة فى الخرطوم خاصة فى الأوساط اليسارية أن الرادكالية الأفريقية التقدمية التى يمثلها السودان قد أضحت هدفا لهجوم الأمبريالية الغربية وحلفائها فى أفريقيا. وبالمقابل فقد أدت تلك القناعة لنقلة فى تصور طبيعة مشكلة الجنوب من شأن داخلي يتعلق بمصاعب الانصهار القومى ٳلى شأن عقائدى يتعلق بالصراع الخارجى بين الامبريالية الرجعية والراديكالية التقدمية. وقد يكون ذلك الخلط قد ساهم فى فشل التوصل لتسوية سلمية رغم كل المبادرات الطيبة التى أبداتها حكومة أكتوبر فى تعاطيها مع مشكلة الجنوب.

 

وبينما كان انتباه الخرطوم مشدودا فى اتجاه الجنوب بدأ وضع خطير يتطور على حدود السودان الشرقية. ففى يناير ١٩٦٥ حدثت اضطرابات حدودية أثارتها قوات الأنيانيا بممارسة عملياتها من قواعد داخل الأراضى الأثيوبية. وكان واضحا منذ البداية أن مصدر التوتر الجديد على الحدود الشرقية هو قلق أديس أبابا المتزايد من الدعم الشعبى والرسمى الذى منحه السودان لحركة التحرير الارترية . ففى مؤتمر صحفى فى ديسمبر وصف سفير أثيوبيا فى الخرطوم قادة جبهة التحرير الارتيرية بأنهم “لا يمثلون أحدا غيرأنفسهم” وطالب الحكومة بعدم مساندتهم(١٤). ومن وجهة نظر الحكومة الأثيوبية فان توجه الأحدات فى السودان كان حقيقة مدعاةً للقلق. فنظام هيلا سيلاسى كان يواجه تحديات فى مجال السياسة الخارجية نابعة من تعقيدات فى وضعه الداخلى. ففى الشرق كانت علاقته مع الصومال متوترة وظل مصير ارض الصومال الفرنسية المهمة استراتيجيا غير محسوم. وفى ذات الوقت تزايد النفوذ المصرى فى البحر الأحمر وفى جنوب الجزيرة العربية مما شكل تحديا للحكومة الاثيوبية الموالية للغرب. فلم يكن من السهل على الأثيوبيين تجاهل مصدر تهديد جديد من نظام سودانى عدائى على الحدود الغربية خاصة وأنه أثار مخاوفهم مما أعتبروه “تطويقا اسلاميا” (‘an Islamic encirclement’) يشكل السودان والصومال فيه قُطْبَي الرّحى. وبغض النظر عن صحة أو توهم تلك المخاوف فقد كانت دافعا قويا لأديس أبابا للتحرك ضد الصومال بتوقيع اتفاقية دفاعية مع كينيا وضد السودان بمنح الملجأ والمساندة لقوات الأنيانيا.

 

وفى تعاملهم مع السودان ذهب الأثيوبيون ٳلى أكثر من تشجيع التمرد فى الجنوب. ففى أبريل ١٩٦٥ وردت تقارير بأن مجموعة من المزارعين الأثيوبيين توغلوا مسافة ٤٥ ميلا داخل السودان وبدأوا زراعة الأرض تحت حماية قوة من الشرطة(١٥). بل ان الأمر تعدى ذلك الى إنتِهاكات واعتداءات أكثر جرأة وامتهانا للسيادة السودانية فقد قام عملاء أثيوبيون بسلسلة من التفجيرات فى مساكن قادة المقاومة الأرترية. وفى بعض تلك الهجمات الارهابية فى مدينة كسلا فقدَ عدد من السودانيين أرواحهم.

 

وكأن المتاعب والمضايقات من الكنغو وأثيوبيا لم تكن كافية فقد كان قَدَر السودان التعامل مع مصدر جديد للمشاكل فى يونيو ١٩٦٥ عندما قام الرئيس التشادى تومبلباى بالتهديد بطرد المواطنيين السودانيين ومصادرة ممتلكاتهم فى تشاد كرد فعل على ما زعم أنه ايواء السودان لبعض المنفيين التشاديين وأعلن فى خطاب عام أنه “اذا لم يُعِد السودان هؤلاء المغامرين من الخرطوم فإنه لا يمكنه الاعتماد على ممارسة تشاد تجاهه سياسة حسن الجوار”(١٦). وكان التهديد واضحا بأن تشاد قد تفتح حدودها للمتمردين من جنوب السودان.

 

وكما قوَّضت مشكلة الجنوب سلطة الطغمة العسكرية فانها أيضا أضحت “كعب أخيل” (Achilles heel) لحكومة ثورة اكتوبر، ولا يخلو ذلك الوضع من مفارقة فقد كان الاحتجاج فى الشمال على سياسة العسكر فى الجنوب بمثابة الشرارة التى اشعلت فتيل الثورة وأطاحت بالحكم العسكرى. كما كان حل المشكلة سلميا من أولويات الحكومة الانتقالية التى بدأت جادة فى تناول المشكلة. ففى بادرة تصالحية أوحت بحسن النية أعترفت الحكومة فى نوفمبر ١٩٦٤ بأن القوة ليست الحل وأعلنت وقف اطلاق النار والعفو العام وأرفقته بنداء لقادة التمرد داخل وخارج البلاد بالمشاركة فى صياغة تسوية سلمية. وقد رحبت دول شرق افريقيا فورا بتلك السياسة الجديدة وفى يناير ١٩٦٤ وقَّعت يوغندا والسودان اتفاقية بتشكيل لجنة مشتركة للاشراف على عودة اللاجئيين الجنوبيين. وفى كينيا ناشدت الصحافة القادة الجنوبيين التعاون مع الحكومة الجديدة و”ترْك الماضى يدفن الماضى القديم لان المهم بالتأكيد هوأن يكون الجميع سودانيين”(١٧).

 

أن تغيرموقف شرق أفريقيا اوضح جليا أنه لا احد من الدول الأفريقية المجاورة والتى تعانى كلها من مشاكل الانصهارالقومى للاقليات يحبذ فكرة انفصال الجنوب. فقد ذكرت صحيفة (ايست أفركان ستاندارد) الكينية فى مارس ١٩٦٥ أن المطلب الجنوبى بالانفصال “قد تكون له عواقب وخيمة للسودان وأفريقيا…فقد يرسم خطا فاصلا بين أفريقيا المسلمة وغير المسلمة وقد يخلق دولة جديدة تفتقد المقومات الاساسية وتغدو معادية للدولة الأم وفريسة لمناورات الحرب الباردة “.

 

ولكن الآمال العريضة فى تسوية سلمية سرعان ماتبددت. فمؤتمر المائدة المستديرة الذى عقد فى الخرطوم فى مارس ١٩٦٥ للوصول لصيغة عملية لحل مشكلة الجنوب فشل فى الوصول لتسوية. وبالرغم من بعض التنازلت التى قدمتها الأحزاب الشمالية الا أن الارضية المشتركة بين الطرفين لم تتسع بما فيه الكفاية. ففى حين قدم الشماليون عروضا من الحكم الاقليمى لم تصل لحد الحكم الفيدرالى فان الجنوبيين مع قبولهم بفكرة السودان الواحد أرادوا اتحادا كونفيدراليا فضفاضا. كما أن الوضع فى الجنوب لم يكن مواتيا لاتفاق سلمى فقد كانت الأنيانيا تزداد قوة بفضل مساندة ودعم الدول المجاورة التى استعدتْها سياسةُ السودان الرادكالية. وفى الظروف السائدة حينها فان قادة الأنيانيا مالوا لتفسير أى بادرة تنازل من الشمال على أنها دليل ضعف ووهن.

 

أدى الفشل فى حل مشكلة الجنوب الى تقويض السياسة الخارجية لحكومة أكتوبر. فالسودان لم يكن قادرا على التدخل النشط فى حركات التحرر الأفريقية والتى كانت احيانا ذات توجهات انفصالية من غير أن يقود ذلك لتدخل معاكس فى مشكلة الجنوب من الأطراف المتضررة. ومما زاد الامر تعقيدا أن الوضع السياسى الداخلى كان يمر فى ذات الوقت بازمة سياسية نتيجة لمطالبة القوى التقليدية (حزبى الأمة والوطنى الأتحادى) بنصيب اكبر وبنفوذ اكثر فى الحكومة الانتقالية. وقد اتهمت تلك الأحزاب العناصر الرادكالية التى تسيطر على الحكومة بأنها “تسير فى ركاب الحزب الشيوعى”(١٨). ومن جانبها أتهمت المجموعات اليسارية الأحزاب التقليدية بانها ” تشن ثورة مضادة لتصفية ثورة اكتوبر والقيم التى قامت عليها”(١٩). وأدت تلك الأزمة السياسية الى تعديل وزارى فى فبراير ١٩٦٥ أعطى تمثيلا أكبر للقوى التقليدية فى الحكومة الانتقالية.

 

ولعل فى ردة الفعل التى بيَّنتها تلك التطورات اكبر دلالة على أن الساحة قد جرى تجهيزها لتراجع السودان عن اندفاعه الثورى الأول. ففى يونيو ١٩٦٥ جرت انتخابات عامة فى شمال السودان اعادت للسلطة حكومة ائتلافية من الامة والوطنى الاتحادى تحت رئاسة محمد أحمد المحجوب. وكانت الحكومة بطبيعتها محافظة ولم يكن التراجع عن الراديكالية عملا يتطلب منها مساءلة النفس، فعندما عرض المحجوب سياسة حكومته امام الجمعية التاسيسة فى ٢٨ يونيو أكد التزام الحكومة بمبادئ وقيم السياسة الخارجية لثورة أكتوبر ثم غادر على الفور ومن دون أن يطّرِف له جفن الى أديس أبابا ليوقع على اتفاقية مع أثيوبيا تحظر النشاطات المعادية لكل من البلدين فى البلد الآخر.

 

وهكذا فى فترة وجيزة نسبيا وصلت ثورة اكتوبر مثل الكثير من الثورات الصغرى والكبرى فى التاريخ ٳلى (ردة الفعل الثرميدورية) (The Thermidorian Reaction) التى ينحسر فيها المد الثورى وفى كثير من الأحيان بنفس السرعة التى تفجَّر بها.

 

الفنْلنْدنة (١٩٦٩-١٩٨٥):

 

ان استيلاء نظام نميرى على السلطة فى مايو ١٩٦٩ شكل نقطة انطلاق رادكالية لبرالية جديدة فى السياسة السودانية، فداخليا كان التوجه العقائدى والسياسي والمؤسسي للنظام (مجلس قيادة الثورة، الميثاق الوطنى للمنظمات الجماهيرية، الاستفتاء الرئاسى والرئاسة المهيمنة) مبنيا على النموذج المصرى وتميزت السياسة الخارجية منذ البداية بارتباط وثيق بمصر وتطابق فى مساق العلاقات مع الدول الأخرى لم يصل لمستوى “التبعية” المطلقة ولكنه اتخذ منحىً يمكن وصفه “بالحالة الفنلندية” أو “الفنلَنْدَنَة” (‘Finlandization’) اذ أنه يماثل الى حد كبير علاقة فنلندا بالاتحاد السوفيتى ٳبان الحرب الباردة(٢٠).

 

خلال فترة حكم الرئيس نميرى اتخذت العلاقة الخاصة مع مصراشكالا مختلفة ترواحت من ميثاق طرابلس واتحاد الجمهوريات العربية الذى وُلد مجهضا ٳلى مساندة السودان المنفردة لعملية السلام المصرى مع اسرائيل. لم يعْنِ ذلك الارتباط الوثيق بالضرورة أنه لم تكن هنك خلافات او توترات فى العلاقت المصرية السودانية فى تللك الفترة، فقد مرت العلاقات الثانئية بفتور فى فترة ١٩٧٢-١٩٧٣ فى اعقاب قرار النميرى التخلى عن التزامه بالانضمام لاتحاد الجمهوريات العربية حتى لا يعرقل الجهود الحساسة حينها للوصول لتسوية سلمية لمشكلة الجنوب. وفى ذات الفترة عبر المصريون عن استيائهم لقرار السودان باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة (ولعل ما ضايق المصريين فعلاً ليس القرار فى حد ذاته ولكن فشل السودان فى استشارتهم اولا). كما تدهورت العلاقة فى فترات متفاوتة اثرعقد مصر لاتفاية السلام الآحادية مع اسرائيل. ولكن كل تلك الخلافات كانت ذات طبيعة عابرة ولم تؤثر حقاً فى النهج القائم للعلاقة الخاصة بل إن فعالية ذلك النهج وتمكنه تمثل فى أن التوترات التى جرت فى العلاقة الثنائية تم حسمها سريعا وفى الغالب بتكيُّف السودان مع الموقف المصرى.

 

ولا يعنى بدء سياسة (الفنلنّدنة) تلك أن السودان قد تنازل عن سيادته أو أن القاهرة أضحت تملى سياسة السودان الخارجية فذلك يصف علاقة دولة تابعة (‘satellite’) اكثر من علاقة ʼفنلندنةʻ (‘Finlandized’). كما انه لا يعنى ان الدافع وراء النهج الجديد للعلاقة هو تخوف السودان من غزو أو تدخل مصرى سافر اذا اتخذ السودان نهجا او موقفا مختلفا فى السياسة الخارجية. فحقيقة الأمر كانت على النقيض من ذلك تماما فإن مصر قد دُعيت للتدخل في الشأن السوداني من قِبل النظام مرات عديدة (١٩٧٠ و١٩٧١ و١٩٧٦ و١٩٨١). وعليه فٳن حقيقة (فنلندنة) سياسة السودان الخارجية يمكن تفسيرها في ضوء المعطيات والدوافع الأمنية التى جعلت تلك التدخلات ضرورية فى المكان الأول.

 

فى مايو ١٩٦٩ اتخذت سياسة السودان الخارجية منحى عقائديا على نفس الوتيرة الراديكالية للقومية العربية الناصرية مما أعاد للأذهان لفترة وجيزة الراديكالية الثورية فى الأشهر الأولى لثورة أكتوبر. ولكن وفاة الرئيس عبد الناصر فى ١٩٧٠ مهدت الساحة لتغيُّرات جذرية فى مصر كان لها آثارها وانعكاساتها العميقة فى السودان. فبينما كان تحرك الرئيس السادات فى مايو ١٩٧٠ ضد ما اسماه “مراكز القوى” بداية فعلية لعملية تفكيك الناصرية فٳن نجاح نميرى فى اجهاض المحاولة الانقلابية الشيوعية فى يوليو ١٩٧١ جر فى أذياله نقلة حادة للسياسة السودانية من نهج عقائدي الى ممارسة براغماتية نفعية انعكست ايضا فى السياسة الخارجية.

 

وقد تبع تحرك كل من النظامين فى القاهرة والخرطوم لتدعيم أو استعادة السلطة مراجعات جذرية لتقييم السياسات الداخلية والخارجية صبت فى نفس الاتجاه وشكلت بالتالى ارضية مشتركة للمصالح المتبادلة. فعندما تحرك السادات لمساعدة نميرى فى سحق المحاولة الانقلابية فعل ذلك ليس لمصلحة وأمن النظام السودانى فحسب بل لمصلحة وأمن نظامه أيضا. وكما أن روسيا السوفيتية لم تكن لتسمح لنظام معادى لها فى هيلسينكى، فان مصر الساداتية كانت ستبذل كل ما فى وسعها لمنع نظام معادى لها فى الخرطوم. والطرف الآخر لهذه المعادلة ان أمن ومصالح نظام النميرى اصبح متشابكا مع أمن ومصالح النظام المصرى بطريقة تجعل السودان عاجزا او غير راغب فى اتخاذ موقف فى السياسة الخارجية يمكن ان يكون معاديا او غير مقبول للنظام المصرى.

 

بعد دحره لمحاولة ١٩٧١ الانقلابية انشغل النظام لفترة وجيزة عن الشئون الخارجية ركز خلالها على بناء وتعزيز سلطته داخليا وتكملة انجازه الكبير بالتوقيع على اتفاقية أديس أبابا فى فبراير ١٩٧٢ فى تسوية تاريخية للحرب الاهلية على اساس الحكم الأقليمى الذاتى لجنوب السودان. أعاد السودان تنشيط علاقته الحميمة مع مصر فى يونيو ١٩٧٣ وتعززت العلاقات الثنائية بتوقيع اتفاقية التكامل الاقتصادى والسياسى فى فبراير ١٩٧٤ وبمساندته سياسات مصرالموالية للغرب، وخاصة بدعمه لاتفاقية فك الاشتبك فى سيناء فى سبتمبر ١٩٧٥ وضع السودان نفسه مع مصر والسعودية فى معسكر ماسمى بدول الاعتدال العربى، وفى جانب السياسات والاسترتيجيات لتى تبنتها الولايات المتحدة الامريكية فى الشرق الأوسط. وتزامن ذلك مع تبلور القطيعة مع الاتحاد السوفيتى التى بدأت فى اعقاب احداث يوليو ١٩٧١، ٳلى عداوة مستحكمة بحلول يوليو ١٩٧٦ فى اعقاب محاولة انقلابية أخرى لم يكن للشيوعيين أو السوفيت أى دور فيها(٢١). وفى مفارقة لا تخلو من رتابة اتخذ الموقف الرسمى للخرطوم تصورا للاحداث حول السودان وداخله يشابه تصور حكومة أكتوبر الانتقالية لوجود تآمر خارجى لتقويض النظام الا أن المتهم الرئيسى فى نظرية المؤامرة هذه المرة لم يكن الامبريالية الغربية بل الاتحاد السوفيتى. وفى الحالتين لم يكن التصور لنظرية المؤامرة مجردا من الحقيقة الا انه كانت له أيضا ديناميكية نظرية “النبوءة التى تحقق ذاتها” (self-fulfilling prophecy). ومهما يكن من أمر فان الدعم السوفيتى المتزايد لأثيوبيا وليبيا أصبح مصدرا لمخاوف الخرطوم والقاهرة وتسبب فى تصريحات للرئيس نميرى تشجب بلهجة حادة الحضور والنفوذ السوفيتى فى أفريقيا. ومن وجهة النظر السودانية المصرية فان التحركات السوفيتية فى دول الجوار الأفريقى (ليبيا وأثيوبيا) تنبئ عن “استرتيجية متجانسة ومتكاملة لتقويض النظامين السودانى والمصرى لأنهما يشكلان حاجزا في وجه التوسع السوفيتى”(٢٢).

 

فى ٢٠ يوليو ١٩٧٦ أعلن عن اتفاقية للدفاع المشترك بين مصر والسودان اعطت صبغة رسمية للروابط العسكرية القائمة من قبل وتم تفعيلها فى يناير ١٩٧٧ لمجابهة تهديد متوقع من أثيوبيا. واقتصاديا سار النظام فى خطى مصر بتبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادى على الغرب والتى أدت بدورها الى اعتماد اكثر على استثمارات رأس المال الغربى والعربى وبحلول ١٩٧٧كان النظام قد ربط نفسه بمحورالقاهرة-الرياض وبالوكالة للاستراتيجيات الغربية فى أفريقيا والشرق الأوسط.

 

ثم قام الرئيس السادات بزيارته الدرامية للقدس فى ١٩ نوفمبر ١٩٧٧ وأثار بذلك زوبعة سياسية فى العالم العربى وضعت العلاقات المصرية السودانية فى امتحان عسير. أبدى السودان بداية الموافقة على المبادرة واصفا اياها “بالخطوة الجريئة والشجاعة”.(٢٣) وقام نميرى بعد ذللك بجولة فى الدول العربية فى منتصف ١٩٧٨ فى محاولة فاشلة لنزع فتيل العداء والغضب المتزايد تجاه مصر. وعلى أية حال فقد اضحت مسألة المصالحة أو الوساطة أمراً أكاديمياً بالاعلان عن ٳتفاقيات كامب ديفيد فى ١٨ ديسمبر ١٩٧٨. ولعل الموقف الحرج والصعب للسودان ازاء تلك التطورات قد انعكس فى ردة فعله التى جاءت فى شكل بيان متناقض من رئاسة الجمهورية حاول التمييز بين الاتفاقيات التى أُبرمت فى كامب ديفيد. فمن ناحية رحب التصريح بالاتفاق الثنائي بين مصر واسرلئيل بحجة ان مصر محقة فى اتخاذها أي خطوة من شأنها إستعادة أراضيها المحتلة فى سيناء. ومن ناحية أخرى أنتقد الاطار العام للاتفاقية الثانية واصفا اياه “بالضبابية والغموض والاغفال” لبعض المسائل الجوهرية كوضع القدس القانونى والسيادة على الضفة الغربية ومستقبل المستوطنات الاسرائيلية ومشكلة اللاجئين. وخلُص البيان ٳلى ان الوصول للسلام يتطلب التوضيح الكامل لتلك القضايا حتى يتم اقناع الأطراف الأخرى بالمشاركة فى السلام للوصول لتسوية نهائية وشاملة”(٢٤).

 

واصبح واضحا ان روابط السودان بمصر قد عقدت علاقات السودان مع الدول العربية المعارضة لمصروجعلت من الصعب عليه القيام بأى دور ايجابى فى شئون العالم العربى، وقد تمثل ذلك التباعد الدبلوماسى فى مؤتمر القمة العربية فى بغداد فى نوفمبر ١٩٨٠ حيث تم تمثيل السودان بمستوى السفراء ولم يؤدِّ أى دور أساس، وتلك السلبية والتراجع عن التقاليد الحيادية فى تعامل السودان فى الساحة العربية لا يمكن تفسيرها الا بحساسية النظام المفرطة لمشاعر مصر. وزاد موقف السودان سوءً وتعقيدا دخول اتفاقيات السلام المصرية الاسرائيلة حيز التنفيذ فى مارس ١٩٨١وبرفع السادات لسقف تحديه لاجماع القادة العرب فى مواجهة لمصر (وصفهم بأنهم “اقزام”) وحينها اصبح فشل السودان فى الانضمام للصف العربى يهدد بتعرضه لذات العقوبات الاقتصادية والسياسة التى جرى فرضها على مصر. وفى أشارة تنذر بذلك قرر العراق وقف إمداد السودان بالنفط.

 

ولم تقتصر تعقيدات الموقف السودانى الموالى لمصر على مشاكله فى العالم العربى بل خلق تعقيدات داخلية خطيرة. فعملية المصالحة الوطنية مع عناصر المعارضة والتى بنى عليها النظام سياسته الداخلية كانت فى خطر الانهيار بسبب العداء المستحكم لقادة المعارضة لسياسات السادات. فقد قدم الصادق المهدى أحد قادة الجبهة الوطنية المعارضة استقالته من كل مناصبه الرسمية فى أكتوبر ١٩٧٨ وغادر البلاد احتجاجا على مساندة النميرى للسادات(٢٥). وفى وجه المعارضة والضغوط فى الداخل والخارج بدأ النظام فى منتصف ١٩٧٩ يتبنى موقفا اكثر حيادية تجاه الصدع السياسى بين مصر والدول العربية. وفى مقابلة صحفية مع مجلة (نيوزويك) شدد نميرى على أن السودان لا يمكن “تصنيفه” مع أى معسكر لأن موقفه من قضايا الشرق الأوسط قائم على “المبادئ التى نؤمن أنها تقود لتقدم القضية العربية لان السودان جزء من العالم العربى ونسعى لتحقيق أهدافنا في كَنَف الجامعة العربية”(٢٦). ولكن التركيز الجديد على موقف اكثر حيادية واستقلالية فى العلاقات بين الدول العربية لم يحل محنة السودان فى كيفية تجنب الانضمام للمقاطعة العربية من غير التعرض للاجراءت العقابية التى طبقت على مصر. ويمكن تلخيص تلك المحنة فى ان السودان كان ميالا للاعتراض على اتفاقية السلام من غير أن يدينها ولقبول مقررات المقاطعة العربية من دون أن ينفذها.

 

أستمرت الضغوط الهائلة على نميرى ليقوم بقطيعة نهائية مع مصر خاصة عندما تواترت أنباء غير مؤكدة عن عرض مصرى لرى صحراء النجف من مياه النيل. وبدا قرار نميرى بالمشاركة شخصيا فى مؤتمر رؤساء الدول فى تونس فى ١٩ نوفمبر ١٩٧٩ الذى تبعه فى ديسمبر استدعاء السفير السودانى من القاهرة، وكأنه نذير بقطيعة وشيكة مع القاهرة. وقد تكون هناك عدة عوامل أدت للتباعد مع مصر. أولا أن الأثار المتعاظمة للمقاطعة العربية لمصر هددت بجعل مشروعات التكامل الاقتصادى مع مصر عبئاً سياسيا واقتصاديا على السودان. ثانيا التقارب الدرامى بين السودان وأثيوبيا خلال ١٩٨٠ مال نحو اضعاف الروابط الأمنية مع مصر والتى جرى تعزيزها أصلا على خلفية العداء مع أثيوبيا. ولكن مع التأهب المرتقب للسودان فى الفكاك من ارتباطه الوثيق بمصراخذت الاعتبارات الأمنية أهمية جديدة عندما ساءت العلاقات السودانية الليبية فى أواخر ١٩٨٠ ووجد النظام السودانى نفسه كما حدث فى حالات سابقة ينشد الحماية والأمان فى إتفاقياته الامنية مع مصر.

 

وكان الحدث الذى فجر الوضع الجديد هو التدخل العسكرى الليبى فى الحرب الأهلية فى تشاد والذي رأت فيه الخرطوم دليلاً جديداً على الدسائس والاختراقات السوفيتية لافريقياً. وشاركت القاهرة قلق الخرطوم بسبب تلك التطورات، وربما قامت بتضخيمه، ووعد الرئيس السادات بدعم عسكرى فورى للسودان أذا اصبح هدفا للاسترايجية السوفيتية والليبية فى المنطقة واعلن ان التحركات الليبية فى تشاد قد خلقت “وضعا خطيرا لانه يهدد السودان وإن ما يهدد السودان يشكل تهديدا لمصر.(٢٧)

 

وكان القرار السودانى فى مارس ١٩٨٠ باعادة التمثيل الدبلوماسى مع مصر يمثل انتهاكا لقرارات مؤتمر القمة العربية فى بغداد التى دعت فى ١٩٧٨ لقطع العلاقات مع مصر إذا هي وقعّت اتفاقية السلام مع اسرائيل. وقد برر النظام قراره بحجة أن السودان لم يقطع علاقاته الدبلوماسية أصلا وأن ترفيع مستوى العلاقة أصبح ضروريا نسبة للتهديد الذى شكله الحضور العسكرى الليبى فى تشاد. وفى نفس الوقت أعلن الرئيس نميرى عن نيته فى أخذ زمام المبادرة لتسوية الخلافات بين مصر والدول العربية وعبر أيضا عن رغبته فى مساعدات من الولايات المتحدة لتحديث القواعد الجوية والبحرية السودانية والتى يمكن اتاحة استعمالها فى وقت الأزمات للولايت المتحدة وأى دول صديقة أخرى (قصد بها غالبا مصر). وكما كان متوقعا فلم تُعِر أى من الدول العربية باستثناء مصرالتفاتا لمبادرة نميرى الوفاقية كما ان عرضه العلنى للامريكيين بدا غريبا لنظام يواجه معارضة متزايدة داخليا وعزلة متنامية فى العالم العربى وردود فعل محتملة من حلفاء السوفيت فى الدول المجاورة.

 

ولعله من المهم عند هذه النقطة التفريق بين أمن النظام السودانى كسلطة وأمن السودان القومى كدولة، ذلك أنه لم يكن هناك تطابقا بالضرورة بين الأثنين. بل ان المحاذير والأخطار المترتبة على تداعيات وتضارب متطلبات الأمن القومى مع احتياجات امن النظام لم تكن خافية. فبينما كان التحالف الوثيق مع مصر عاملا فى ضمان استمرارية نظام النميرى كما فعل فى ١٩٧١ و١٩٧٦ الا أنه ساهم أيضا فى تقويض أمن البلاد بإثارته ضغينة وتخوفات القيادات السياسة فى الجنوب واستياء غالبية المعارضة الداخلية فى الشمال . وعندما زار الرئيس السادات الخرطوم فى يناير ١٩٧٩ لمخاطبة الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب السودانى والمصرى قامت مجموعة من النواب الجنوبيين بتقديم مذكرة للاجتماع تصف السياسة المصرية “بالاستعمارية الجديدة”وتعبر عن مخاوف الجنوب فى ان تقود خطط التكامل المصرى السودانى الى ان يصبح الجنوب “مستودع نفايات” (‘a dumping ground’) للفائض السكانى فى مصر(٢٨). وفى الشمال كانت مجموعات من الأحزاب التقليدية خاصة انصار حزب الأمة والاسلاميين والعناصر اليسارية متفقين فى عدائهم العميق لنظام الرئيس السادات. وكان قادة المعارضة السابقة قد أكدوا ان التخلى عن التحالف مع مصر وتبنى سياسة عدم الانحياز دوليا من شانه أن يخدم مصالح البلاد بصورة أفضل. كما ظل الاحتمال قائما أن تتعرض البلاد لكارثة اقتصادية اذا قررت الدول العربية الغنية فرض عقوبات شاملة على السودان والتى يبدو أن احجامهم عن تفعيلها يرجع ٳلى تخوفهم من البدائل المترتبة على زعزعة نظام النميرى، يسارية كانت أم اسلامية متطرفة، أكثر من تقبلهم الضمني لسياساته الموالية لمصر. وكان واردا أيضا أن تثير العلاقات المصرية السودانية بعض جيران السودان الموالين للسوفيت للدخول فى مغامرة عسكرية ضد السودان (كما فعلت ليبيا بدعمها لقوات المعارضة المسلحة فى ١٩٧٦) ويجرُّ ذلك بدوره لتدخل مصرى مضاد لتكتمل الحلقة المفرغة وبالتالى يتردى الوضع فى داخل البلاد الى حرب أهلية لا تعنى تفكيك النظام فحسب بل تهدد القطر بأكمله بالتَّمزق.

 

وبالرغم من كل تلك المخاطر والمحاذير فقد أختار نظام النميرى التشبث بتحالفه مع النظام المصرى الذى أدّى فيه الهاجس الأمنى دورا أساسيا وبالطبع كان ذلك طابع سياسة النظام منذ البداية فى علاقته مع مصر. ولكن الذى جدَّ بعد اتفاقيات كامب ديفيد انها ادخلت عاملا جديدا وسلطت الاضواء على المخاطر التى يمكن ان تجرها سياسة السادات الآحادية والعزلة التى تبعتها على السودان. وبالتأكيد كانت تلك فترة صعبة تنازعت السودان فيها الاعتبارات الأمنية، التى جعلت من الضرورى المحافظة على العلاقة الخاصة مع مصر، مع الأهمية السياسية والاقتصادية لتجنب استعداء الدول العربية الأخرى. ولفترة أستمر السودان فى المناورة بصعوبة بين المعسكرين الا ان عملية التوازن أفتقدت المصداقية وأحيانا هددت باستعداء الطرفين. ولكن عند كل محك خطير يهدد بالقطيعة التامة كان النظام السودانى يتراجع ليرتمى مجددا تحت مظلة الأمن المتبادل مع نظيره المصرى.

 

أصبح هذا واضحا حتى عندما أدت تداعيات سياسات الرئيس السادات الى سخط شعبى داخل مصر بلغ ذروته باغتيال السادات فى ٦ أكتوبر ١٩٨١ وكاد ان يطيح تماما بنظامه. وفى الأيام العصيبة التى تلت الاغتيال عزز السودان تضامنه الوثيق مع النظام وكان النميرى هو الرئيس العربى الوحيد (باستثناء الرئيس الصومالى سياد برى) الذى حضرجنازة السادات وبقى فى القاهرة للمشاركة الرمزية فى الاستفتاء القومى الذى تم بموجبه ترفيع حسنى مبارك لرئاسة الجمهورية. وبعد رحيل السادات جاء فى الأخبار أن القوات الامريكية فى الشرق الأوسط تخطط استراتيجيا لنقل جنود مصريين تحت غطاء طائرات “الاواك” (AWACs) للانذار المبكر لمراقبة الحدود بين السودان وليبيا وحراستها.

 

ولكن الوقت لم يكن فى صالح نظام النميرى بل ان الاعتماد المتزايد على التحالف المصرى والأمريكى هدد بنقل نهج (الفنلنّدنة) فى علاقة السودان بمصر الى منزلة (التبعية). ولكن السخط الشعبى كان قد بلغ مداه حينذاك وجاءت انتفاضة أبريل ١٩٨٥ لتمهد الطريق لتجربة الديمقراطية الثالثة التى لم تستمر طويلا لأسباب عديدة ليس هنا مجال تحليلها. وبمفارقة تاريخية قد يصعب استيعاب أبعادها فقد كان قدر السودان أن تستولى الجبهة الاسلامية على السلطة بانقلاب عسكرى لتخضِعَه لمشروعها الحضارى الذى افتتحت به طوال ربع قرن من عمرها فصولا عدة من المآسى فى سياسات السودان الداخلية والخارجية تبدو معها بالمقارنة كل السياسات السابقة منذ الاستقلال وكأنها تمثل عصراً ذهبيأ.

 

 


 

الهوامش والمراجع:

 

* نشرت هذه الدراسة أصلا باللغة الأنجليزية كجزء من كتاب (Sudan since Independence) الذى صدر فى لندن فى عام ١٩٨٦ وحققه د.بيتر وودورد من جامعة ردينق بتعاون ومشاركة شعبة العلوم السياسة بجامعة الخرطوم. وتوخيت عند ترجمة الدراسة اضافة بعض المعلومات من مراجع لم تكن متاحة لى فى مطلع الثمانينات مما عزز قراءة وتحليل بعض الأحداث التى وردت فى النص الانجليزى..

 

(١) فى مجال السياسة الخارجية فقد خلت فترتا الديمقراطية الاولى (١٩٥٦-١٩٥٨) والثانية (١٩٦٥-١٩٦٩) من أحداث ذات تداعيات او تداخلات اقليمية ودولية خطيرة لانشغال الأحزاب السياسية وقتها بالسياسة الداخلية والصراع المحتد من اجل السلطة. ولكن الاستثناء المهم لذلك الوضع كان الدور الاساس والفاعل الذى قامت به حكومة محمد أحمد المحجوب الثانية فى جمع الشمل العربى فى أعقاب هزيمة يونيو ١٩٦٧. ولكن حتى فى ذلك الوقت الحرج فقد تمت مبادرات المحجوب الدبلوماسية (التى كانت محل اتهام من خصومه السياسيين بانها غطاء لاخفاقاته الداخلية) على خلفية وضع متردى من الخلافات والمناورات الحزبية مما اضعف من فاعلية التحرك الدبلوماسى ومهد الطريق للانقلاب العسكرى فى مايو ١٩٦٩.

 

(٢) لعل أحد عوامل السياسة الخارجية الذى أدى لقرار رئيس الوزراء عبدالله خليل بتسليم السلطة للعسكر فى نوفمبر ١٩٥٨ تخوفه من النفوذ المتزايد للرئيس المصرى عبد الناصر وقناعته أن الجيش السودانى هو الجهة الوحيدة التى التى تستطيع الوقوف امام مصر أو على الأقل منع قيام حكومة متحالفة معها.

 

(٣) وثائق الخارجية الامريكية عن سنوات عبود (الحلقة ١) ترجمة محمد علي صالح . صحيفة (الراكوبة) ٦/٥/٢٠١٣

 

(٤) فى مطلع الثمانينات ذُكرت نقلا عن أحمد خير رواية لا تخلو من طرافة وٳن كانت تعكس نهج “عش ودع الغير يعيش”(live and let live) الذى اتسمت به سياسة عبود الخارجية. فقد زار السفير الامريكى الوزير لياخذ أذنا لطائرة تحمل عتادا حربيا بعبور المجال الجوى السودانى من ليبيا الى أثيوبيا، فسأله الوزير: “على أى أرتفاع ستحلق الطائرة؟” رد السفير بأنها ستحلق على ارتفاع عال. وهنا قال له أحمد خير “هل تظن أن أحدا سينظر نحو السماء ويرى طائرتكم من خلال السحاب؟ لماذا تأتون وتزعجوننا بمثل هذه الطلبات؟” فرد السفير أنهم يريدون فقط التحوط فى حالة سقوط الطائرة على أرض سودانية. وانتهى الأمر بان أعطى الوزير موافقة شفهية. ويذكر نفس المصدر ان طلبا مشابها من الاتحاد السوفيتى قد تم رفضه لان الروس رفضوا السماح للسلطات السودانية بتفتيش الطائرة عند هبوطها فى مطار الخرطوم فى طريقها لجهة غير معلومة . Interview by Sally Ann Baynard, Khartoum, 9 July 1981. See Sally Ann Baynard Sudanese Foreign Policy under Nimeiri, 1969-1982 (PhD Thesis, George Washington University, 1983).

 

(٥) صحيفة النيل (الخرطوم) ١٤/١٢/١٩٥٩. كانت الصحيفة هى الناطقة بلسان حزب الأمة المنحل وقد يكون فى تحمسها لدور اكبر للسودان فى أفريقيا حثٌّ للنظام على الإبتعاد عن الساحة العربية التى كان النفوذ الناصرى فيها فى تزايد مطرد فى ذلك الوقت.

 

(٦) سلمان محمد احمد سلمان “السودان بين سد النهضة والسد العالي” صحيفة (الراكوبة) ١٧/٦/٢٠١٣. تاريخيا في عام 1929، عقدت مصر والسودان المصري الانجليزي اتفاقية اعطت مصر 48 بليون متر مكعب من ماء النيل، مقابل 4 بليون متر مكعب للسودان مع حق مصر في مراقبة تدفق الماء، وفي رفض اي مشروع يؤثر على مصالحها النيلية. وفي عام 1959 حددت الاتفاقية الجديدة حجم تدفق الماء عند سد أسوان ب84 بليون متر مكعب. وبان تنال مصر 56 بليون متر مكعب، والسودان 19 بليون متر مكعب وسمحت لمصر ببناء السد العالي، وللسودان ببناء خزان الرصيرص وغيره. وفي عام 1999، اعلنت تسع دول نيلية مبادرة حوض النيل للتعاون المشترك ( السودان، مصر، اثيوبيا، يوغندا، كينيا، تانزانيا، بورندي، رواندا، الكونغو). لكن، في الوقت الحاضر، توجد مشاكل بين هذه الدول، خاصة بسبب اصرار مصر على حقوق استثنائية خاصة بسبب خزان النهضة الأتيوبى على النيل الازرق.

 

(٧)
Ruth First, Barrel of a Gun; Political Power in Africa and the Coup d’état, (London, 1970) p.249

وقد عكست برقية من السفارة الأمريكية بالخرطوم لواشنطون بتاريخ ٣/١١/١٩٦٠قراءة مماثلة للواقع السودانى: ” صار واضحا ان معارضي نظام عبود يستغلون موضوع حلفا لاسقاط النظام. وبعد هدوء دام عاماً تقريبا، يبدو ان السودان سيشهد تحركات علنية هامة ضد النظام. ومهما يحدث لهذه المظاهرات في المستقبل، فقد صارت نقطة تحول لانها مواجهة رئيسية للنظام العسكري المنعزل عن اراء المدنيين، والذي يعامل المدنيين وكأنهم عسكريين. وربما سيلجأ عبود لمزيد من الكبت، لكن تبقى هذه المظاهرات تحديا، ونقطة تحول”. وثائق الخارجية الأمريكية، مصدر سابق.

 

(٨) K. D. D. Henderson, Sudan Republic, Benn, (London, 1966) p.204

 

(٩) برقية السفير لواشنطون بتاريخ ٥/١/١٩٦١ وثائق الخارجية الأمريكية (الحلقة ٦) مصدر سابق

 

(١٠)Peter Bechtold, Politics in the Sudan, (Praeger, New York, 1976) p.115

 

(١١) East African Standard, Nairobi, 20 January 1965

 

(١٢)John Howell, and M. Beshir Hamid, ‘Sudan and the Outside World, 1964-1968’ in African Affairs, Vol.68, No.273, October 1969 p. 300

 

(١٣)Khartoum News Service, 7 March 1965

 

(١٤)Khartoum New Service, 18 December 1964

 

(١٥) صحيفة الزمان (الخرطوم) ١ مايو ١٩٦٥

 

(١٦)Africa Diary (London) 17 July 1965

 

(١٧)East African Standard (Nairobi) 20 January 1965

 

(١٨) صحيفة النيل (الخرطوم) ٩ فبراير ١٩٦٥

 

(١٩) صحيفة الميدان (الخرطوم) ١٣ فبراير ١٩٦٥

 

(٢٠) تعبير (Finlandization) صاغه عالم السياسة الالمانى ريتشارد لوينثال (Richard Lowenthal) فى ١٩٦٦ ليصف نمط العلاقات التى ربما تقوم بين أوربا الغربية والاتحاد السوفيتى فى حالة تفكك وانهيار الحلف الاطلسى والتى شبهها بعلاقة فنلندا مع السوفيت. والتعبير لا يحمل مضمونا انتقاصيا فلا يعنى أن فنلندا قد فقدت سيادتها أو رهنت استقلالها بقدر مايعنى أنها لظروف تاريخية وعسكرية وأمنية رأت أن تنتهج سياسة خارجية تراعى مصالح واستراتيجيات جارتها الكبرى. ومن الملفت ان التعبير بعد اختفائه من قاموس السياسة الدولية بنهاية الحرب الباردة عاود الظهور مؤخرا لوصف سياسات روسيا الهادفة للحد من خيارات السياسة الخارجية للدول التى تقع على حدودها مثل أوكرانيا أو لوصف علاقة مستقبلية أو فى طورالتكوين كما هو الحال فى التقارب الراهن بين تايوان والصين.

 

(٢١) فى الفترة بين ١٩٧١ و١٩٧٦حاول السودان موازنة علاقاته بين الغرب والشرق بزيادة الاهتمام بعلاقته مع الصين التى أبدت من جانبها ترحيبا بقطيعة السودان المتزايدة مع الاتحاد السوفيتى..

 

(٢٢)Colin Legum, (ed.), Africa Contemporary Record, 1977-78 (London) 1978, Vol. 10

 

(٢٣)International Herald Tribune, Paris, 23 November 1977

 

(٢٤) الصحافة (الخرطوم) ٢٦ أكتوبر ١٩٧٦. يبدو ان ذلك الاجراء غير العادى فى اصدار البيان من رئاسة الجمهورية كان نتيجة انقسام داخل الحكومة وأجهزة الاتحاد الاشتراكى فى كيفية التعامل مع اتفاقيات كامب ديفيد أو أن نميرى لأسباب خاصة به قرر تولى مسؤولية الرد السودانى بنفسه

 

(٢٥) أن مصدرعداء قادة المعارضة لنظام السادات خاصة من حزب الامة تخطى المشكلة الأنية لاتفاقية السلام الى ما اعتبروه تبعية سياسة السودان الخارجية لمصر. فقد صرح صادق المهدى لصحيفة (القارديان) “أن روابط السودان مع مصر قد قادته الى طريق محتوم لمساندة سياسات الولايات المتحدة ومناهضة المبادرات السوفتية فى أفريقيا. هذه السياسة المنحازة تتسم بالجمود والتعنت وهى تغرى حلفاء السوفيت على حدود السودان بالانتقام كما انها بتحالفها المفرط مع احدى الدولتين العظميين تتجاهل امكانات الاسلام كقوة عالمية وتحد من حرية وخيارات السودان”. The Guardian, London, 25 May 1979

 

(٢٦)Newsweek, 11 June 1979

 

(٢٧) الأهرام (القاهرة) ١٥ فبرائر ١٩٨١

 

(٢٨) The Guardian, London, 26 January 1979


 

 

Back to Top