Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٣٠) : حول العالم فى ١٨١ يوما

Al-Rakoba 15 May 2015

حول العالم فى ١٨١ يوما

 

 

للفرنسيين تعبير بسيط فى كلماته عميق فى معناه لم أجد له قدر اجتهادى مقابلا مرضيا فى اللغة العربية، فهم يقولون (Déjà vu) بما يمكن ترجمته حرفيا) شوهد من قبل) لوصف ظاهرة الشعور أو الاحساس عند الانسان وهو يرى حدثا أو يمر بتجربة بأنه قد رأى ذلك الحدث أو مر بتلك التجربة من قبل. وفى علم النفس تُفسر هذه الظاهرة بأنها حالة (نشوذ فى الذاكرة) نتيجة لمحة ذهنية قصيرة قبل ان يتمكن الدماغ من اكمال تركيب تصور واع ومتكامل للمشهد مما يخلق تصورا جزئيا يؤدى بدوره لشعور بأُلفة الحدث أو التجربة.

 

هذا سادتى ما شعرت به بالضبط وأنا اطالع فى لمحة خاطفة خبر البرنامج الاصلاحى الذى أعلنه سيدى الحسن الميرغنى بعد اكتساح حزبه لبعض من الثلاثين دائرة (التى أخلاها لهم المؤتمر الوطنى بعبقرية نادرة فى ادارة التنافس الحزبى) فى الانتخابات الأخيرة والذى وعد فيه سيادته ٳصلاح حال البلاد وحل كل المشاكل التى تشغل بال العباد خلال مائة وواحد وثمانين يوما. ولم أدرِ لحظتها بالتحديد ما الذى قٚدحٚ وميض الاسترجاع فى ذاكرتى المشوشة وجعل ذهنى يسترجع القصة الشهيرة (حول العالم فى ثمانين يوما) التى قرأتها اول مرة فى صباى اذا لم تخنى الذاكرة والتى اعتقد أن العديد منكم سادتى قد قرأها أو سمع بها أو شاهد فيلما سينمائيا يجسد أو يقتبس فكرتها. ومؤلف هذه الرواية (جول غابرييل فيرن) كاتب فرنسي من القرن التاسع عشر يعتبر بكل المقاييس عبقرى زمانه فبالاضافة لخياله الخصب والذى كان له الفضل فى تأسيس ما يعرف بـأدب الخيال العلمي فقد كانت له مقدرة خارقة فى عرض رواياته عن الرحلات والاسفار فى إطار علمي شيق اختلط فيه واقعه المعاصر بولعه بالمخترعات العلمية وتنبؤاته بمآلاتها المستقبلية. فقبل قصة (حول العالم فى ثمانين يوما) التى نشرت فى عام ١٨٧٢ تنبا باختراع الغواصة التى تجوب الأعماق فى روايته (عشرون ألف فرسخ تحت البحار) وباختراع الصاروخ عابر الفضاء فى قصة (من الأرض إلى القمر) وكل ذلك ضمن مجموعة ضخمة من المؤلفات عن الاسفار وعلم الخيال في جو من التنبؤات العلمية المذهلة.

 

وقد يتساءل متفلسف منكم سادتى عن وجه الشبه بين كاتب فرنسى عاش فى القرن التاسع عشر وسيدى الحسن العايش بيننا فى القرن الحادى والعشرين. ولكن قبل أن يتهمنى أحدكم بالتقليل من شأن سيدى الحسن بمقارنته بفرنسى يفتقد النسب والحسب أسلافاً وسلالةً، دعونى أعدد ما أراه من أوجه الشبه بين الٳثنين. أولا كلاهما يمتلك خيالا عبقريا تخطى حدود العقلانية ٳلى رحاب اللامعقول، فاذا كان الأول قد أستعمل خياله العلمى لياخذنا فى رحلة شيقة حول العالم فٳن سيدى الحسن قد استعمل خياله الروحى ليطوح بنا عبر برنامجه المثير ٳلى جنته الموعودة. واذا كان الفرنسى قد تنبأ باختراع الغواصة فان سيدى الحسن يجسد مفهوم (الغواصة) ذاته فى أكثر معانيه اللفظية دلالة. واذا كان الفرنسى قد جعل بطل قصته يدخل رهانا غير معروف العواقب مع أصدقائه بالسفر حول العالم فى ثمانين يوما فان سيدى الحسن قد أدخل حزبه فى رهان انتخابى غير مضمون العواقب حتى قبل أن يوعدنا برحلة المائة وواحد وثمانين يوما. واذا كان الكاتب الفرنسى قد خلق لبطل قصته الكثير من المصاعب والمشاق خلال رحلته منها تعرضه فى الهند لمطاردة بعض المتعصبيين دينيا (من دواعش ذلك الزمان) بسبب مشاركته فى انقاذ أرملة شابة من الموت حرقا مع جثمان زوجها العجوز كما كانت تقتضى طقوسهم الدينية آنذاك، فان سيدى الحسن قد تضايق أشد الضيق من عدم امتثال بعض دهاقنة حزبه العواجيز لطقوس الحزب الدينية بمعارضتهم لقراره بالمشاركة فى طقوس الانقاذ الانتخابية. وحتى لا أتهم بالمبالغة – سادتى – فالأمانة العلمية تقتضى الاشارة ٳلى اختلاف بسيط فى التفاصيل، ففى حين اكتفى الفرنسى بجعل بطله يلوذ بالفرار من مطارديه، فان سيدى الحسن لم يرض من الغنيمة بالٳياب ٳلى (اللندرة) كما فعل أخوه بل أخذته (الهاشمية) فيما يبدو فاعمل سيفه الانكشارى فى معارضيه فصلا وتشويها لسمعتهم واصفا ٳياهم مرة (بالدواعش) وأخرى (بالذباب) ولعله قد قصد النوع الذى يتجمع عادة حول ما تبقى من (فتة الحولية).

 

واذا خطر لبعضكم سادتى أن يتساءل اذا كانت النهاية ستكون أيضا متشابه فى الروايتين فأستطيع أن اؤكد بيقين لا يتطرق اليه الشك أننى أعرف كيف انتهت قصة (حول العالم فى ثمانين يوما) لأننى ببساطة قد قرأتها عدة مرات، فالبطل (فيلياس فوج) يصل ٳلى لندن فى نهاية رحلته ليكتشف أنه خسر الرهان بفارق ساعات قليلة ولكن وهو يهم بدفع قيمة الرهان اذا بخادمه المخلص يأتى مهرولا وقبل أن يستطيع المرء أن يصيح (يا “لطيف”!) نجده يبشر(سيده) بأنه حقيقة قد كسب الرهان بيومٍ واحدٍ من الموعد المحدد بعد احتساب فارق الزمن. (وقد يكون هذا اليوم الواحد هو الذى أضافه سيدى الحسن الى المائة والثمانين التى فى جعبته). ومن يستعصى عليه سادتى فهم علاقة التوقيت الزمنى بهذه النهاية السعيدة عليه استعارة (فهامة) مستشار الرئاسة العبقرى الذى أتحفنا بفكرة (البكور).

 

أما بالنسبة لقصة (فى خلال مائة وواحد وثمانين يوما) فلا نسطيع الجزم بشكل قاطع عن كيفية نهايتها قبل أن تستوفى (استحقاقها) الدستورى أو يكتمل (جدولها) الزمنى والذى أرى أن تقوم المفوضية القومية للانتخابات بتنقيح سجل المعنيين فيه حتى لا يتهمنا اخواننا فى دولة جنوب السودان بٳشانة سمعتهم. ولكن هذا لا يمنعنا بالطبع من استطلاع السيناريوهات المحتملة ولفعل ذلك يتعين علينا التمعن قليلا فى خارطة الطريق للمائة وواحد وثمانين يوما. فكما كان (لفيلياس فوج) خادم مخلص اكتشف له (غلوطية) اختلافات التوقيت الزمنى فان لسيدى الحسن حواريون ومريدون يمدونه بالمشورة أو على الأقل ينقلون ٳلينا أقواله المأثورة. أول خطوة فى (قارعة) طريق الحسن كانت الخيار السلمى لحسم الصراع السياسى (“الصندوق يتيح فرصة أخرى ولكن الرصاصة لا”) وهى حكمة بليغة بالفعل دأب علماء السياسة فى الغرب منذ بداية القرن التاسع عشر على ترجمتها للغات عدة تحسبا لان سيدى الحسن سيقوم بصياغتها فى القرن الحادى والعشرين! وجاءت الخطوة الثانية مرتبطة بالأولى (“نرضى بالصندوق وإن أتى مغشوشا”) وٳن فقدت بعض توازنها الأخلاقى بما تحمله من توقع (للخج) الانتخابى والرضى به فى آن. ثم جاءت الخطوة الثالثة فى تأكيد سيدى الحسن لأهمية خوض الانتخابات لأنها (“مفرزة الأوزان الانتخابية”) وهى عبارة تحمل قدرا من الأصالة قد يجعل قادة الحزب الشيوعى يتحسرون على عدم الٳلمام بها عندما خاض الحزب انتخابات عام ١٩٨٦ منفردا عن أى تحالف أو تنسيق بحجة معرفة ثقله السياسى. ولا أدرى اذا كان سيدى الحسن لا يعلم بما حدث للحزب الشيوعى فى تلك الانتخابات أو أنه استلهم الحكمة منه. ثم جاءت الخطوة الرابعة فى تعبير (“التعافى الوطنى”) الذى يبدو ان سيدى الحسن يكثر من ترديده. ولعل هذا سبب عجزى عن استيعاب معانيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتشعبة وغالبا لانها أيضا (أعلى من درجة راتبى) كاستاذ للعلوم السياسية، كما يقول عادة (سادتنا) الأمريكان عن الأمور المستعصي عليهم فهمها أو المحظورعليهم الخوض فيها.

 

وقد يندهش بعضكم سادتى من عبقرية اللمسات الاخيرة التى وضعها سيدى الحسن لتلك الخارطة فهى تتلخص – كما لا ينفك من تذكيرنا أحد مريديه – فى (“تحريض الرئيس لتعجيل الحلول”) فسيدى الحسن فى عجلة من أمره ويريد أن يبادر الرئيس المنتخب بممارسة سلطاته فورا بموجب التفويض الجديد دون أن يضيع شهرا فى انتظار اداء القسم. وأنا – سادتى – أتفق تماما مع سيدى الحسن فى عدم الالتفات لمثل هذه الشكليات الدستورية التى لا معنى لها فقد أدى الرئيس القسم مرات عديدة ويكفى هذه المرة أن يكتفى بترديده لنفسه. ولكن قد يسأل متفلسف آخر منكم: لماذا كل هذه العجلة؟ ما التغيير الذى يرغب الحسن فى اتمامه فى ستة اشهر ولم تكفِ ستة وعشرون سنة لٳحداثه؟ وما الضمان أن الرئيس بتفويضه الجديد أو بدونه سينفذ برنامج الحسن الاصلاحى بدلا من أجندته الخاصة أو أجندة حزبه؟

 

كل تلك – سادتى – أسئلة مشروعة ولعل سيدى الحسن قد رد عليها ضمنا فى معرض تصريح صحفى قبل أيام قدم فيه (“نصيحة مهمة للمؤتمر الوطني”) لخصها فى عدم الٳكثار من استصحاب (“أحزاب الفكة”) لانها (تأخذ من غير أن تقدم أى عطاء). وفى حنكة سياسية لا يقلل من مدلولها روح الفكاهة التى امتزجت بها أضاف سيادته محذرا وموضحا ان (“الفكة تقدد الجيوب”) ومطالبا حزب الأغلبية (أن يراعي في تحالفاته القادمة الحرص على التعاون مع أحزاب ذات ثقل حقيقي تضم في عضويتها الخبراء والعلماء والمفكرين والمنتجين ولها علاقات خارجية ممتدة لتشكل إضافة حقيقية للحكومة الجديدة). واختتم سيدى الحسن تصريحه منبها إلى ان الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به حزبه للمشاركة فى الحكم هو (“ذلك الثقل الذي يمكن الحزب من الوفاء بالتزاماته تجاه ناخبيه”)!

 

وهكذا مع هذا الايضاح (الكِسِنْجٚرى) الوافى لمعالم (قارعة) الطريق فأننى سأتعود من اليوم على النوم مبكرا وانا أتوق لأن أصحو ذات صباح مشرق عند نهاية المائة وواحد وثمانين يوما لأجد أن السلام قد عم ربوع بلادنا فى دارفور وجنوب كردوفان (وشمال كردوفان أيضا) والنيل الأزرق (والنيل الأبيض كذلك)، ولاكتشف أن اقتصادنا قد ازدهر فجأة وأن جنيهنا قد عاد ليعادل ثلاثة دولارات. كل أملى أن لا يزاحمنى أحد وأنا (ادافر) للوصول صباح ذلك اليوم لأول الطابور لاستلام سيارة (الكورولا) التى قررت الحكومة منحها هبة لكل مواطن.

 

هذا بالطبع – سادتى – اذا لم يطل علينا فجأة ذلك العبقرى صاحب نظرية (البكور) ليخبرنا (ويا “لطيف”!) أن ثمة تعديل بسيط فى التوقيت الزمنى…

 

بثيسدا، ميريلاند

١٥ مايو ٢٠١٥

 


Back to Top