Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٢٧): مساعد الرئيس للشؤون الانكشارية

Al-Rakoba 4 April 2014

مساعد الرئيس للشؤون الانكشارية

 

 

جاء فى الاخبار سادتى أن مرشح المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية دعا المواطنين فى حملته الانتخابية بولاية وسط دارفور لطرد الشيطان الذي قال انه يسعى للفتنة بين الناس ومضى للقول: “من يسعى للفتنة أدوه في راسو”. ولا أخفى عليكم سادتى ان هذه المقولة البليغة قد لمست أوتارا حساسة فى مشاعرى وأمضيت وقتا ليس بالقصير وأنا لا استطيع أن أقرر اذا كان قد تم استلهامها فى وضع استراتيجية (عاصفة الحزم) السعودية أم أن العكس هو الصحيح. وأحب سادتى أن أعلن هنا صراحة أننى لا انتمى من قريب أو بعيد لقبلية النقاد الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب والذين لمحوا لتناقض هذه المقولة مع ما جاء فى ذات الخطاب السياسى بأن “اتفاقية الدوحة جلبت السلام الحقيقى” ومع الوعد الذى قطعه المرشح فى نفس الحملة ” بتوفير خدمات مياه الشرب النقية والتعليم والمشاريع الزراعية فى دارفور” خلال ما تشير كل الدلائل على أنه سيكون ربع القرن الثانى من ولايته. فقد تساءل بعض هؤلاء النقاد فى براءة ظاهرية تنضح داخليا بالخبث السياسى: اذا كان السلام قد عم ربوع دارفور فعلام الحديث عن السعى للفتنة وطرد الشيطان؟ بل بلغ سوء القصد عند بعضهم حد التساؤل الليئم اذا كان قرب “اكتمال انشاء مطار زالنجى” (والذى أعلنه والى وسط دارفور فى نفس الحملة الانتخابية) قد تم بنفس المواصفات التى أتُبعت فى بناء مطارنا الدولى الجديد (فى أم درمان) أو بنفس الشركة التى صممت كبرى (الجقور) فى المنشية؟.

 

وخلافا لهؤلاء فقد تمعنت كثيرا فى هذه المقولة وقمت بتحليلها كعادتى بطريقة علمية فوجدت أن استراتيجية (أدوه فى راسو) لا تعدو أن تكون سوى نقلة نوعية وٳن كانت اشد ايلاما من نظرية (البمد يدو علينا بنكسرا ليهو”) التى افتتح بها المؤتمر الوطنى حملته الانتخابية. ولعل السؤال المهم الذى أغفله الكثير من المعلقين هو: هل كُللت هذه الاستراتيجية الانتخابية بالنجاح المرتجى وتم اطفاء الفتنة وطرد الشيطان من دارفور؟ أم ان هذه العملية ستنتهى بانتهاء الحملة الانتخابية أو باعلان نتيجة الانتخابات أيهما كان الأول؟ للاجابة على هذا السؤال المحورى قررت القيام بدراسة ميدانية على أرض الواقع فحزمت أمورى وتوكلت على الحى الدائم وتوجهت غربا. لم يطل بى المسار سادتى فعند مشارف أبوكرشولا بجنوب كردفان لمحت الشيطان يجلس القرفصاء تحت شجرة ظليلة واضعا رأسه بين يديه وهو يتأوه الما مما خمنت (خطأً كما تيبن لى فيما بعد) انه نوبة من الصداع الحاد. وقبل ان أبادر بسؤاله عن ما ألم به نظر الىّ شذرا وكأنه يتوقع أن أنزل ضربا على أم رأسه وتمتم شيئا بصوت خفيض فهمت منه انه لم يبق فى رأسه موقعا لنبوت. لا أدرى بالتحديد سادتى اذا كان قد استعمل هذا التعبير بالذات أو شيئا من قبيل (تكسرت النصال على النصال) ولا اريد أن أخوض فى جدل بِيزٙن۫طىّ اذا ما كان الذى تلقاه على رأسه نصالا أو نبوتا أو ضربا على يافوخه فكل ما خطر فى ذهنى حينها أنه فى حاجة ماسة للعلاج فى مستشفى (الزيتونة) الدولى. جلست بالقرب منه وأخبرته برفق أننى أحمل معى بعض أقراص (البنادول) المُهرب۫ قد تخفف بعض صداعه فهز رأسه نفيا وكأنه يريد ان يقول أن ما يعانى منه اكثر من مجرد صداع واشار باصبعه الى المكان بين قرنيه بما فهمت منه أن أحدهم قد حاول سلخ فروة رأسه.

 

لعل بعضكم سادتى سيغضب مني و(يأخد في خاطره) اذا اخبرتكم ان شعورا بالتعاطف والحنية تجاه الشيطان قد انتابنى ولكن لا يجب تفسير عاطفتى هذه على اننى أننى قد تخليت عن الاستعاذة منه كلما مررت بمقربة من مجمع الفقه وهيئة علماء السودان أو أننى استسلمت لاغوائه بتقديم طلب التحاق بوظيفة فى مكتب والى الخرطوم. كل ما حدث أن منظره جالسا تحت شجرة فى أطراف ابو كرشولا وحاله يغنى عن السؤال قد أثار فى داخلى مشاعر لا يفهمهما الا من عانى من التهجير أو الاغتراب الاجبارى خاصة اذا صاحبه نوع من الضرب على اليافوخ دعك عن سلخ فروة الرأس فعليا كان ذلك أو معنويا.

 

قلت وأنا أحاول التهوين عليه: “ياخى انت الشلاقة العليك شنو. ايه الوداك تنزل فى انتخابات انت عارف ما حتكسبها؟” فرد بسرعة وكأنه يحاول نفى مشاركته فى تحريض الحوثيين للزحف على صنعاء: “انتخابات شنو البنزل فيها؟ أنا قدر الجماعة ديل وللاّ بقدر على البقدرو عليهو؟ ده ناس المفوضية قالو ليا عديل كده لمن اتقدمت للترشيح ان مؤهلاتى التعليمية ومعدل ذكائى (الآى كيو) أكثر بكتير من المطلوب! يعنى بالعربى الفصيح كده أنا (over-qualified)”

 

لا ادرى ياسادتى فقد بدأ لى صادقا فيما يقول الا أن احساسا قويا تملكنى بأنه يخفى عنى شيئا لا أدرى كنهه وان شككت أنه يتعلق بما دار بالضبط بينه وبين مفوضية الانتخابات فمن يدرى فقد يكون الموضوع برمته (لعبة وداخلها غش) كما يردد دائما أحد أصدقائى منذ أن سمع بقصة (المفاصلة) الشهيرة. فسألته وأنا أختار كلماتى بعناية حتى لا أستفزه: “طيب ليه ياخى سعيت للفتنة؟”

 

رد بلهجة غاضبة: “فتنة شنو اللى أنا بقدر عليها؟ ديل ناس (الهلال) و(الكِبر) خلو فرصة لاى حد عشان يعمل فتنة؟ ديل أنا قاعد اتعلم منهم ويا دوبك عرفت كيف أطلع الدبايب من جيبى!”

 

سارعت بالقول وأنا أرى يده تمتد الى جيبه باننى لا أحتاج (بيان بالعمل) لتصديقه بشأن موضوع (الدبايب) وان كنت لا أزال اشك فى أنه ليس بالبراءة التى يحاول أن يدعيها وأن سمعته عالميا (مش ولا بد) ذاكرا له كدليل على ذلك المثل الانجليزى القائل “اذا تعشيت مع الشيطان فيجب أن تكون لك يدا طويلة” أو شيئا من هذا القبيل. توقعت أن ينفجر لاعنا سنسفيل جدود الانجليز متهما اياهم بالتآمر مع الامريكان والصهيونية العالمية والشيوعية الملحدة (مستثنيا الصين) لاشانة سمعته وتخريب مشاريعه الحضارية. ولكن لدهشتى رد بانكسار وهو ينظر للارض: “الحقيقة أنا مرات كتيرة عملت حاجات مش كويسة ومرات فعلا ايدى كانت اطول شوية من اللازم”. وسكت برهة وأردف وظلال ابتسامة ساخرة تتراقص على شفتيه: “لكن خلى الانجليز ديل يجو يتعشوا مع (حميدتى) عشان يعرفوا اليد الطويلة طويلة كيف!” ثم اضاف وهو يهز رأسه تعجبا: ” ديل ناس بسرقوا الكحل من العين”.

قلت وأنا أحاول أن أواسيه: “طيب ليه يا خى ما حاولت الحل الدبلوماسى بدل البهدلة دى كلها، يعنى تعمل ليك حتة حركة مسلحة تسميها (دافر) مع بقية المدافرين وتمشى (الدوحة) تتفاوض كم شهر كده وانت قاعد فى فندق سبعة نجوم تشيل وتخت مع الجماعة وهاك يا لت وعجن وبعدين تلقى نفسك فى مكتب أنيق فى رئاسة الجمهورية وعليه يافطة مكتوب عليها (مساعد الريس للشؤون الانكشارية)!”

 

نظر الىّ الشيطان فاغرا فاه ولمعانا غريبا فى عينيه المحمرتين ينبئ بأنه بدأ يستسيغ الفكرة فقررت أن أضرب والحديد لا زال ساخنا كما يقولون، فتابعت بهمة لم اعتد عليها: “وبعدين ياخى الوظيفة التنفيذية دى ما عاوزة اى تنفيذ. يعنى تمشى تقعد الصيف كلو فى لندن ويمكن تمر على باريس فى طريقك لقضاء الشتاء والربيع فى القاهرة ومنها تعمل زيارة زيارتين للخرطوم لزوم تفقد الرعية ورفت اى زول من قيادات حزبك يلولح ضنبو جاى ولاّ جاى، هم فاكرين الحكاية لعب وللاّ ايه!”

 

لكم سادتى أن تتخيلوا الفرحة التى غمرت الشيطان فقد نسى فجاة كل الآمه بما فيها فروة رأسه المسلوخة وبدأ يرقص فيما يبدو أنه (تسخين) لما سيفعله مستقبلا اذا سارت الأمور كما يشتهى. سألنى عن أسرع الطرق للوصول للدوحة فأخبرته أن يسرع بالذهاب الى زالنجى ويركب الطائرة من مطارها الجديد وشددت عليه أن يسافر للدوحة عن طريق أديس أبابا حيث يتوجب عليه مقابلة (ثامبو أمبيكى) فى مقره الدائم هناك وتسجيل اسمه للمشلركة بغير انقطاع فى كل المباحثات التى لن تنتهى لآلية الحوارالوطنى وتحقيق السلام.

 

ودعنى بحرارة وهو يشد على يدى مؤكدا أن مكتبه فى رئاسة الجمهورية سيكون دائما مفتوحا أمامى فى الأيام القليلة التى سيتواجد فيها والمح الى أنه قد يحتاج لاستشارتى فى تحليل بعض الأمور (الانكشارية) فطمأنته أن كل ما سيحتاج اليه فى تلك الحالة النادرة هو مشاهدة بعض المسلسلات التركية.

 

أغرورقت عيناىّ سادتى وأنا اراه يبتعد عنى رويدا رويدا وهو يمشى بصعوبة على حافريه فى الرمال متجها صوب زالنجى. وبعد فترة اختفى خلف بعض التلال فاستلقيت تحت ظل الشجرة وأنا اشعر بسعادة دافئة تغمرنى. نظرت الى أعلى ورايت فروع الشجرة تتمايل وتتراقص تحت النسيم وكأنها ايضا تحتفل بنصر مؤكد. عندها سادتى أدركت بما لا يدع مجالا للشك أى رمز انتخابى ساضع صوتى عليه يوم الانتخاب!

 

القاهرة

السبت ٤ أبريل ٢٠١٥

 


Back to Top