Mohamed Beshir Hamid

(هواجس ساخرة (٢٦): ما بين (تيس نفيسة) و(تمومة الجرتق

Al-Rakoba 3 March 2015

ما بين (تيس نفيسة) و(تمومة الجرتق)

 

 

ونحن نقف على عتبة الانتخابات الرئاسية أجد نفسى كغيرى من أفراد شعبنا وقد تملكنى شعور طاغى بالفخر والاعتزاز وأنا أرى المرشحين يتسابقون فى عرض برامجهم السياسية وتصوراتهم العملية لحل مشاكلنا القومية. ولكم أيها السادة أن تتخيلوا المشاعر التى اعتملت فى داخلى وأنا أشهد هذه الدراما الانتخابية بشفافيتها وأبعادها الديمقراطية وبكل ما فيها من تشويق واثارة. لا بد لى بداية الاعتراف بأن بعض المرشحين لم يرتفعوا لسقف الاستحقاق المطلوب من المسؤولية الانتخابية، فهناك المرشح الذى ادعى بأنه تلقى “تهديدا من حزب السلطة” لم يفصح عن طبيعته (أهو دعوته لزيارة ميدانية لبيوت الاشباح أم تلميح بتزوير توقيعه على وثيقة “نداء السودان” مثلا؟) آخرون اشتكوا (والشكوى لغير الله مذلة) من استخدام “مرشح الحكومة” امكانيات الدولة من مناصب وقنوات رسمية بما فيها المساجد فى الحملة الانتخابية. وهناك المرشح الذى وجه غضبه تجاه مفوضية الانتخابات لأنها لشئ فى نفس يعقوب قامت باطفاء رمزه الانتخابى (الفانوس) الذى كان (مولعا) من قبل فيما فسره على ما يبدو بأنه محاولة خبيثة ويائسة وفاشلة لتعتيم طريقه الى كرسى الرئاسة! ورغم أن هذه الاتهامات قد تكون فى معظمها (بارانوية) المصدر وبالتى مجافية للحقيقة الا انها لا تنتقص من النهج الديمقراطى العام للانتخابات، فبخلاف أنها تضفى عمقا دراميا (وقد يقول بعض المكابرين نكهة هزلية) للحملة الانتخابية ففيها قدر من الذكاء السياسى باثارة نعرة الدونية الانتخابية (underdog phenomenon) المتعارف عليها عادة فى قاموس السياسة كوسيلة يستخدمها المرشح المغلوب على أمره لاستجداء أصوات الناخبين.

 

وكما تعرفون سادتى فليس لدينا للأسف أنظمة استفتائية معتمدة (polls) لاستمزاج رأى المواطنين ولهذا قررت الرجوع لخلفيتى الدراسية فى العلوم السياسية وشحذ كل ما فى جعبتى من خبرة وتجربة فى الشأن الانتخابى لاحدد النتيجة المتوقعة لانتخاباتنا الرئاسية. من أول قراءة متمعنة أدركت أن المنافسة ستكون حامية الوطيس ومن الصعوبة، ٳن لم يكون من الاستحالة، التكهن بالمرشح الذى سيفوز بقصب السبق فى هذا التنافس الحاد المحتدم. هل يا ترى سيكون الفوزمن نصيب المرشحة التى تعهدت لنا فى سماحة ورحابة صدر ومقدرة فائقة على ممارسة العفو الرئاسى بعدم تسليم اقوى منافسيها الى المحكمة الجنائية بعد تحكرها فى كرسى الرئاسة؟ (يبدو أن مرشحتنا هذه لم تسمع بالمساجلة التاريخية فى السياسة البريطانية عندما قامت الليدى أستور بتهديد منافسها ونستون تشرشل قائلة: “لو كنت زوجى لدسست لك السم فى قهوتك” فرد عليها تشرشل: “لو كنت زوجتى يا سيدتى لشربتها!” ولكن من الواضح أننا قد تطورنا من مثل هذه التقاليد العتيقة لديمقراطية ويستمنستر الى ما وصفه أحد المعلقين “أدب السلخانة” من شاكلة “البمد يدو علينا بنكسرا ليهو”). من ناحية أخرى هل يكون الفوز من نصيب منافسها الذى وعدنا فى تواضع غير مألوف فى المعترك السياسى بأنه سينصاع بكل ٳحترام لرغبة الشعب السودانى اذا لم يتم اختياره؟ أنا شخصيا يا سادتى أشك فى ذلك فالتعبير مسبقا عن مثل هذا الزهد السياسى فى المنصب الرئاسى قد يترك انطباعا سلبيا لدى الناخبين بأن المرشح المعنى لا يمللك الرغبة الكاملة لمواصلة العمل القومى فى خدمة مواطنيه وقد تتنازعه دوافع أخرى كالتفكير فى الهجرة الى (اللاهاى) مثلا.

 

بالمقابل فلكم أعجبت سادتى بجرأة وطموح المرشح المستقل الذى طرح عبر مؤتمره الصحفى برنامجا انتخابيا ياخذ الانفاس حتى تكاد تشعر بالاختناق فهو يريد الغاء كل الولايات الغاءً لا رجعة فيه ولا عودة وذلك باخلائها من السكان واعادة توطينهم فى منطقة الخرطوم الكبرى من جبل أولياء إلى الجيلي (والتى وصفها احد المعلقين بأنها ستصبح جمهورية الخرطوم الديمقراطية). الغرض من هذا التهجير الجماعى هو زراعة اراضى الولايات الخالية من السكان فى (وثبة) زراعية كبرى تدر علينا مئات الميارات كعائد قومى قد تجعلنا نصبح الدائن الرئيسى للولايات المتحدة بدلا من الصين. كل ما أعيبه سادتى على هذه الخطة الإستراتيجية الطموحة هو أن المرشح أغفل أن يخبرنا من سيقوم بزراعة تلك الولايات الخالية من السكان وان كنت على قناعة أنه بمجرد توليه الرئاسة سيقوم باستيراد ما يكفى من (الروبوتات) الصينية لتقوم بالمهمة خير قيام. كل ما أخشاه سادتى أن تتعثر هذه (الوثبة) كما حدث لمثيلاتها (حتى فى الصين نفسها) وتبقى علينا مرة أخرى حكاية (تيس نفيسة) والتى لخص فيها أحد ابناء الرباطاب بسخريتهم البليغة ما فعله بنا (تيس) الانقاذ: “جابوا يُعشر الغنم قام رضعن”!

 

ولكن المرشح الذى نال اعجابى وقررت بعد تمحيص ودراسة وتحليل لبرنامجه الانتخابى أن أمنحه صوتى هو المرشح الذى أعلن أنه يدخل الانتخابات (تمومة جرتق). وقد تملكنى الكثير من الاستياء سادتى للتفسير الخاطئ الذى أعطاه بعض المعلقين لهذه المقولة وكأنها تعنى أن هذا المرشح يقصد أن دوره لا يعدو أن يكون (كومبارس) فى عملية شراء شرعية زائفة لانتخابات مخجوجة. ويؤسفنى ان اقول لمن يعتقد ذلك (حتى وٳن كان بينهم المرشح نفسه) أن ادراكهم قد عجزعن استيعاب الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبرنامج الانتخابى الشامل الذى وضعه المرشح ببراعة يحسد عليها فى كبسولة من كلمتين. فعند التمعن فى جذور كلمة “تمومة” نجد أنها من تم يتم فهو تام تمام التمام بمعنى الكمال والاكتمال الذى يمتد عبر فترة أومرحلة زمنية قد تطول وتطول ثم تطول حسب الفترة الرئاسية التى قد يستمتع بها المرشح. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تتناغم سجعا كلمة (تمومة) مع كلمة (أمومة) فتلك بلا شك ضربة معلم فى شكل تورية ضمنية ربما لا شعورية من جانب المرشح لحصد أصوات النساء فى تناسق زمنى مع احتفالنا بيوم المرأة العالمى هذه الأيام.

 

أما كلمة (جرتق) فتأتى من جرتق يجرتق فهو مجرتق جرتقة شديدة. ويجب فى هذا السياق عدم الخلط بين (الجرتقة) و(الجردقة) فالأخيرة مع دلالاتها الطبية خاصة للذين يكثرون من التهام (الهوت دوجز) و(الهامبيرغر) ليست لها الأبعاد الاجتماعية لمفهوم (الجرتق) والتى لا تخفى على أحد. تقول العرب “أطلب الجرتقة ولو من الصين”- هذا بالطبع اذا تعسر الحصول عليها من محلات اولاد (مرين) فى ام درمان – مما يعطى بعدا جغرافيا واقتصاديا للبرنامج الانتخابى. ويبدو ان اصل (الجرتق) من الكلمة الانجليزية (geriatric) ومعناها معالجة الطاعنين فى السن والعناية بهم مما يزيد من العمق الاجتماعى والصحى للبرنامج الانتخابى ويضمن أيضا فى لفتة انتخابية بارعة هى الأخرى أصوات (اصحاب المعاشات) من امثالنا.

 

هنا سادتى تذكرت أن قانون الرعاية الطبية فى أمريكا والذى يمثل انجازا تاريخيا للرئيس أوباما يتعرض هذه الايام لمحاولات الالغاء من الكونجرس الذى يسيطر عليه الجمهوريون وكذلك احتمال تشليع بنوده من قبل المحكمة العليا. وجدت نفسى أتسأل: أذا لم نتمكن لا قدر الله من استيراد مايكفى من (الروبوتات) الصينية لزراعة كل الولايات الخالية من السكان وبالتى لن نتمكن أن نصبح من كبار الدائنين للولايات المتحدة فلماذا لا نحاول على الأقل مساعدة الرئيس أوباما فى انقاذ قانون الرعاية الطبية؟ قمت على الفور بالاتصال بالبيت الأبيض وقلت من غير أى مقدمات: “اسمع يا باراك لازم تعمل (تمومة جرتق) لحملتك الانتخابية السنة الجاية”.

 

رد أوباما مستغربا: “لكن أنا خلاص فترتى الرئاسية التانية حتنتهى السنة الجاية وحسب الدستور ما بقدراترشح مرة تالتة”.

 

قلت “اسمع يا باراك ما الفائدة من عمل الدساتير اذا لم يكن الغرض هو تعديلها؟ نحن عندنا خبيرة فى خياطة الدساتير من عهد الامامة المايوية وتقدرتفصل ليك دستورعلى مقاسك تقدل بيهو وملصق فيك وانت ماشى زى العريان. ممكن نبعتها ليك بس انتو كمان خففو شوية من حكاية العقوبات دى”.

 

قال أوباما بعد تردد: “ونعمل ايه فى مفوضية الانتخابات بتاعتنا؟”

 

قلت له: “كويس ذكرتنى بحكاية المفوضية يا براك. نحن برضو عندنا (مصمم) انتخابات عبقرى ممكن يظبط ليكم كمان تنظيم عملية الانتخابات فأرقد قفا من الحكاية دى”.

 

مضت فترة صمت طويلة وبدأ القلق ينتابنى بأن أوباما سيخذلنى وأن تراثه التاريخى سينتهى به المطاف لنفس مصير (تيس نفيسة). ولكم سادتى ان تتخيلوا مدى فرحتى وابتهاجى وصوته يأتى ٳلىّ عبر الأثير سائلا: “كدى اشرح لى تانى (تمومة جرتق) معناها بالضبط شنو؟”

 

القاهرة

١٥ مارس ٢٠١٥

 


Back to Top