Mohamed Beshir Hamid

(هواجس ساخرة (٢٢) : كيف هزمنا فريق السامبا فى (المونديال

Al-Rakoba 24 June 2014

كيف هزمنا فريق السامبا فى (المونديال)

 

 

لكم ياسادتى انت تتخيلوا فجيعتى الكروية الكبرى وأنا أرى فرق منتخباتى المفضلة وهى تتطاير كأوراق الخريف فى الدور الأول لمنافسات كأس العالم فى البرازيل. البداية كانت بأسبانيا وهزيمتها النكراء أمام هولندا بخمسة أهداف مقابل هدف يتيم. لم أستطع النوم ليلتها إلا سويعات قليلة قبيل الفجر ونحيب مكتوم يكاد يخنق أنفاسى وأنا أستعيد فى مخيلتى تحليقة (ڤان بيرسى) العجيبة جواً وتلاعب (روبن) بالدفاع الأسبانى فى مهارة تفوق تلاعب تجار غسيل العملة عندنا بالجنيه السودانى المسكين. ويبدو أن (أم العيال) قد لاحظت تأوهاتى ولكن أساءت فهم مصدرها فقد أيقظتنى قبل أن تكتمل غفوتى: ” شنو يا راجل الهضربة بتاعتك دى، طول الليل (أدونا خمسة أدونا خمسة). الشرع ذاتو قال أربعة أنت عاوز تروح (مخمس) طوالى”.

 

لا شك أنكم تعذروننى سادتى إذا لم تمكنى حالة التبلد الذهنى التى كنت فيها من تفهم مقصدها فقد هممت أن أرد عليها: “تخميس شنو يا ولية انتى عارفة انا بطلت التدخين من سنين”. ولكن استوقفتنى كلمة (الشرع) ومالت بتفكيرى لمآلات أخرى. أنا اعرف أن التشريع لا يقوم به (نوام) المجلس الوطنى (بإستثناء شيخ الختان النشط الذى حرّٙم على النساء لعب كرة القدم ولا ادرى إذا قام بتطوير فتواه تلك ليُحرم عليهن مشاهدتها أيضاً) وإنما يتولى أموره السادة (البرفيسورات والدكاترة) أعضاء هيئة علماء السودان. فقد قامت الهيئة الموقرة بتجديد تحريمها للغناء فى شهر رمضان فى فتوى تبدو فى ظاهرها لتجنيبنا الوقوع فى المفاسد بجعلنا نتفرغ للعبادة وإن كنت أشك أن هدفها الحقيقى حثنا على متابعة ما تبقى من مباريات كأس العالم لإلهائنا عن معاناتنا اليومية الخانقة. أنا شخصياً مع فتوى التحريم هذه لأسباب فنية بحتة تتعلق بعلو (النهيق) وهبوط الكلمة فى أغانينا حالياً. إلا اننى سأفتقد بالتأكيد ضحكة السر قدور المجلجلة اللهم إلا إذا تعاقدت معه قناة الخرطوم للعمل مذيعاً أو معلقاً رياضياً ليتحفنا بما فى جعبته من حقيبة الفن الكروى مقارناً مثلاً وصف حمدتو الرائع لمباريات زمان والزعيق الهستيرى لمذيعى اليوم وكأنما المطلوب منهم ملء فراغ رؤوسهم برفع عقائرهم من دون شفقة بطبول آذاننا الحساسة. ولكن ادهشتنى فتوى أحد أعضاء هيئة العلماء قبيل المونديال بتحريم (فك) شفرة بث المباريات على اساس انها (سرقة) وكأنهم يعملون فى جهاز الأمن التقنى لقناة الجزيرة الرياضية. ثم لماذا كل هذا الحرص من جانب علمائنا الأجلاء على المال القطرى ولماذا لا يقابله حرص مماثل على مال السودان السائب بإبداء رأيهم مثلاً ولو على إستحياء فى فقه (التحلل)؟ هنا قررت عدم الإسترسال فى هذا التساؤل العبثى فمن يدرى فقد ُيقبض علىّ متلبساً بفك شفرة البث القطرية وعندها يمكننى التمسح باعتاب فقه التحلل بتسديد قيمة الإشتراك كاملة زائداً الفائدة الربوية لهيئة علماء السودان مباشرة.

 

أفقت من تهويماتى الإنصرافية هذه على صوت (أم الوليدات) يصيح بى: “مالك ساكت زى الصبت فيك مطرة؟ ولاّ كلامى ما عجبك؟” شرحت لها فى هدوء لم أعتده أنها قد (فهمتنى غلط) فقد كنت أقصد (ادونا) بمعنى (التلطيش) وتلقى (الشلاليت) وليس (أدونا) بمعنى (الشحدة)زذ1 وتمنى (المستحيل). ولا أدرى إذا اقتنعت بمنطقى هذا أم لا وإن لاحظت أنها لم ترمقنى شذراً وهى تضع أمامى كوب الشاى وأنا أتأهب لمشاهدة مباراة البرتغال وألمانيا. لا أريد سادتى أن أثقل عليكم بتفاصيل المأساة التى ألقت بظلالها وأنا أرى الكاسحة (juggernaut) الألمانية تجتاح البرتغال الكسيح (ويا كريستياناه) برباعية لا أدرى لماذا تم وصفها (بالنظيفة). ففى تقديرى غير المهنى أن احد الأهداف على الأقل قد جاء من حالة تسلل ظاهر يستطيع الشيخ المكاشفى بشغفه المعهود لتنفيذ الحدود أن يطالب فيه بإقامة حد السرقة (ونشوف الألمان حيتحللو منها كيف)!.

 

قررت أن أمضى ليلتى تلك المثقلة بالأحزان والوجيعة فى غرفة الجلوس تحسباً لما قد تجره علىّٙ (الهضربة) من مشاكل لا داعى لها. ولكن يبدو أن المشاكل تصر على المسك بتلالبيبى فشكوك (ام الوليدات) لم تتبدد تماماً بسبب (هضربتى) تلك الليلة والتى لا بد أنها سمعتها من بُعد فقد قالت وهى تناولنى فنجان قهوة الصباح بلهجة تقريرية أكثر مما هى إتهامية أو حتى تساؤلية: “خلاص نزلتهم لأربعة عشان ما تخالف الشرع”. لم يسعفنى تفكيرى برد او تعليق مناسب إذ أن دماغى كان لحظتها فى خضم عملية حسابية معقدة لتقييم إحتمالات فرص إنجاترا ضد الطليان. فإنجلترا تهمنى أكثر من أى بلد آخر ففيها اكملت دراستى العليا وفيها وُلد أكبر أبنائى. وعندما وصلت تضريباتى إلى أن فرص المنتخب الإنجليزى تعادل فرص فوز فريق الهلال ببطولة دورى أبطال أفريقيا، قررت أن الأمر يحتاج لإستشارة أحد بيوت الخبرة الكروية. حاولت الإتصال بجمال الوالى ولكن مكتبه أخبرنى بأنه فى إحدى دول الخليج للتفاوض فى تشييد كلية لتحفيظ وتفسيرالقرآن بجوارإستاد المريخ. توكلت على الحى القيوم واتصلت بشقيقى الأكبر الذى عمل فى الماضى رئيساً لنادى عريق ببحرى وعُرف بحنكته الإدراية الفائقة ومقدرته المذهلة فى قراءة نتائج المباريات وانجازاته الرائعة فى تسيير مظاهرات الإبتهاج فى كل مرة يخرج فيها فريقه مهزوماً بفارق أقل من خمسة أهداف.

 

شرح لى شقيقى الوضع بتبسيطه المعهود قائلاً: “شوف يا محمد اخوى أول حاجة يعملها أهل ولدك الإنجليز ديل يبطلوا حكاية التكتيك الحديث بتاع الباصات السريعة اللى جاب خبر المنتخب الأسبانى ويرجعوا لطريقة لعبنا زمان اللى كنا بنعتمد فيها على (لاعبين) اساسيين فقط. واحد فيهم لازم يكون (انطون) محايتو باتعة وبخرتو واصلة وده يمكن يسألو منو فى مجمع الفقه بتاعنا بس يمكن الايام دى يكونو مشغولين شوية فى تحرى رؤية هلال رمضان. والتانى حكم المباراة وده عاوز شوية (ريسيرش) ودى أخوانا المصريين فالحين فيها بلحيل. يعنى اصحابك اولاد جون ديل يشوفو حكم المباراة منو ومن وين ويصلوه قبل الطليان ما يختوه فى جيبهم”.

 

ويبدو أن الطليان قد نجحوا فعلاً فى الوصول (لأنطون محايتو باتعة وبخرتو واصلة) وفى أن “يختو الحكم فى جيبهم” فقد أنهزمت انجلترا (ويارونياه) بهدفين مقابل هدف. قررت تلك الليلة المبيت فى السطوح حتى تتجه تأوهاتى و(هضربتى) شاكية باكية نحو سماء الله الواسعة. ولكن يبدو أن (ام العيال) برادارها الملقاط استطاعت التقاطها فقد قالت وهى تحضر لى (ساندوتش الفطور) بصوت يكتنفه غموض لا يخلومن تلميح بغبطة خفية : “خلاص بقينا اتنين بس. عاد ربنا يهديك يا راجل وتنزل درجة واحدة بس وتبقى فى عوايدك القديمة”. وأعترف اننى لم أع ما قالته تماما فقد كنت افكر فى أى المنتخبات أشجع بعد أن اصبح المونديال (مسيخاً) بالنسبة لى وبعد تفكير لم يستغرق طويلاً قررت اللحاق بثلاثة أرباع الشعب السودانى فى تشجيع المنتخب البرازيلى. جلست امام التلفاز لأشاهد مباراة البرازيل والمكسيك واكتشفت لدهشتى البالغة أن جهاز الإستقبال (الريسيفر) الذى تلاعبت فيه ببراعة لفك شفرة البث قد اختفى تماماً. كنت اعرف أن (ست البيت) لن تعود من زيارة لأهلها إلا فى وقت متأخر فجلست لا أدرى ماذا أفعل وأنا أحملق فى صورتى وانا جالس فى الغرفة المنعكسة من شاشة التلفاز المغلق.

 

وفجاة طرأت فى خاطرى فكرة جنونية. ماذا لو كان منتخبنا الوطنى مشاركاً فى مونديال البرازيل؟ وبينما أخذت الفكرة تختمر فى ذهنى رويداً رويداً بدأت صورة الغرفة تختفى تدريجياً من شاشة التلفاز المغلق لتحل مكانها فى حركة بطئية صورة صقور الجديان وهم ينزلون للملعب (للتسخين) فى المباراة النهائية لمونديال البرازيل ضد منتخب البلد المضيِّف. ومع بداية المباراة إنتابنى حماس غامر وتملكنى شعور هستيرى جعلنى أقفز واقفاً كلما صوب جكسا قذيفة كادت تهز شباك (جيفرسون) أو أنقذ حامد بريمة مرماه بقفزة بارعة رأسية صاروخية من (نيمار). وجدت نفسى أصيح: “باصيها يا برعى طوالى لماجد…كده اللعب ولاّ بلاش…أيوه تمام التمام يا بكرى باص قدر المقاس…وده شنو يا حكم؟ دى ما (بنلتى) عديل…يا سلام يا المحينة! دى طلعت كيف يا جقدول؟ بالله شوفو يا جماعة (الفيز) العوير ده قايل بيطلع من (السد العالى)! …ده ما سارق يا حكم…ما معقول يا جماعة! (مارسيل) ده وقع براهو ..أيوه يا عمر عثمان وريهم الحرفنة كيف.. والله يا الهادى قفلت سيلفا وعدمتو النفس !.. نحن دلوقت فى الدقيقة الأخيرة من الزمن الإضافى و حامد بريمة يدى باص قصير لسمير.. وسمير ماشى..سمير ماشى.. فات (اوسكار) و(راميرس) وماشى..سمير دخل القون ولسع ماشى ..سمير دلوقت خارج الاستاد وبرضو ماشى … ياربى عاوز يرجع لأهلو فى ودمدنى؟…”

 

وفجأة شق أذنى صوت هادر غطى على صفارة الحكم فتلفتُ لاجد (الحكومة) واقفة فى باب الغرفة تنظر الىّ فى تعجب بالغ وتصيح: “ده شنو يا راجل؟ إنت جنيت ولاّ شنو؟ ليه قاعد براك تتكلم مع تليفزيون مقفول؟”

 

قلت وانا أحاول أن ادارى عينىّٙ: “والله فتشت على الريسيفر ما لقيتو”.

 

ردت قائلة: “الريسيفر أنا شلتو وأديتو لأولاد أختى”.

 

سالتها مستغرباً: “وعملتى كده ليه؟”

 

قالت وإبتسامة عريضة تغطى محيّٙاها : “والله يا ابوخالد خفت هضربتك الكترت الأيام دى تروح تطلع ليك فى راسك وتنزل طوالى من اتنين الى صفر من غير ما تاخد وقفة فى نمرة واحد بعد العُشرة الطويلة دى”.

 

قلت وأنا ابتسم بدورى: “بعد كده ما تشيلى هم من هضربتى يا ام خالد فالليلة غلبنا البرازيل تسعة صفر!!” نظرت لشاشة التلفاز المغلق فوجدتها تعكس لى صورتى جالساً فى الغرفة أحملق فى نفسى. عندها لم اتمالك أن أضيف وأنا أحاول أن أكظم غيظى: “بس يا ولية لو صبرتى علىّٙ دقيقة دقيقتين كنت عرفت سمير وصل وين!”

 

الخرطوم ٢٤ يونيو ٢٠١٤


Back to Top