Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٢١): أهمية أن تكون فضولياً

Al-Rakoba 18 June 2014

أهمية أن تكون فضولياً

 

 

فى كتب الأطفال وبرامج التلفاز والڤيديوالأمريكية شخصية كاركاتيرية فى شكل قرد مرح يدعى “جورج الفضولى” (Curious George) وهو فى فضوليته هذه يمثل المصطلح التعريفى المقابل للمثل الإنجليزى الشائع: “الفضول الكتل الكديس” (Curiosity that killed the cat). إلا أن الفضول لا يقتل جورج بل يدخله دائماً فى مشاكل عويصة يخرج منها عادة (كالشعرة من العجين).

 

أذكر هذا تمهيداً لإعترافى بأننى مثل القرد جورج الأمريكى (وليس بالضرورة مثل القط الإنجليزي) أعانى من داء الفضول المُزمن، فمنذ صغرى عُرف عنى ولع غير صحى بتقصى الأمور وحب استطلاع يكاد يرقى لمرتبة الهوس الفضولى. ويقال اننى عندما كنت طفلاً يحبو كنت اقوم بالتنقيب فى الحفر وتحت الحجارة فى حوش المنزل ويحكى أن المرحومة حبوبتى قالت بحكمتها البالغة : “الشافع ده بى شلاقتو دى يوم بتقرصو عقرب”. وقد لدغتنى بعض العقارب بالفعل ويقال أننى فى لحظة تجلى فضولى قمت بتشريح عقربا قادها فضولها الأعمى لمقربة منى. ولكن تلك مقولة لا يمكننى تأكيدها إذ أن مخزون ذاكرتى لا يمتد لتلك الحقبة الطفولية من حياتى، وإن كان يبدو أن تجربة ما فى طفولتى قد ترسبت فى عقلى الباطنى تجعلنى حتى اليوم أمارس الحذر الشديد لكبح فضولى عند الإقتراب من أى كائن (رافع ضنبو)!

 

فى المدرسة كثيراً ما أزعجت المدرسين وشوشت على الفصل بأسئلتى الملحاحة. أذكر فى حصة الجغرافيا ونحن ندرس التجول الجغرافى الجميل فى بلد المليون ميل (الكانت زمان) أننى توقفت عند مقطع (فى القولدِ التقيتُ بالصديقِ) وقاطعت المدرس سائلاً: هل الصديق هذا أسم أم صفة؟ وسواء أكان إسماً أو صفةً فلماذا الصديق بالذات؟ وكيف أكون قد التقيت به وأنا لم أرى القولد فى حياتى؟ حزمت ملابسى ذلك اليوم وأخبرت والدى أننى فى طريقى للقولد لألتقى (الصديق). انتهت رحلتى قبل أن تبدأ بجلدى فى طابور الصباح بالمدرسة أعقبتها علقة معتبرة عند عودتى للبيت. (ولمصادفةٍ لا تخلو من مفارقة التقيتُ (الصديق) الحقيقى بعد سنين طوال فى مطلع التسعينيات ليس فى ربوع الشمالية وإنما فى شتاء مدينة واشنطون القارص وأنا أبدأ سنوات المنفى القاسية).

 

ويخيل لى أحياناً أننى لم أوفق فى إختيار مهنتى الأصيلة فى الحياة لفشلى فى الإستجابة الكاملة للحنين الفضولى فى داخلى. ولعل صحيفة (ألوان) لم تبعد عن الحقيقة كثيراً عندما اتهمتنى فى منتصف ثمانينات القرن الماضى بالعمالة لمخابرات الاتحاد السوڤيتى (KGB) ثم عادت بعد فترة لتشير لعمالتى للمخابرات الأمريكية (CIA) وإن كنت قد أخذت عليها التلميح غير الموثق لعمالتى للموساد الإسرائيلى عندما وضعتنى فى تعميم مخل، لا يشبه مهنية صاحبها (الموسوعية) وذكائه (المترداف)، ضمن حملة “الصهيونية العالمية والشيوعية الملحدة والغرب العلمانى” ضد ما كانت تبشر به الصحيفة حينها بتباشير المشروع الحضارى. ولكن حتى (ألوان) لم تكن تعلم أننى لم أتفرغ تماماً للعمالة بل تعاملت مع العمل الإستخباراتى كهواية وفضلت عليه (ويا خيبتاه) التدريس بجامعة الخرطوم. وحتى عندما التحقت بالأمم المتحدة وعملت فى البوسنة كدت أن أتسبب فى أزمة دبلوماسية عندما طلبت من السلطات المحلية ان يبينوا لى عملياً كيف كانت تتم عملية الإعدام بإستعمال “الخازوق” (impalement) خلال الحكم العثمانى فى تلك البلاد. (وأقرب تشبيه لعملية الخازوق هذه لمن لا يعرفها هو ما فعلته هولندا فى أسبانيا والمانيا فى البرتغال فى الدور الأول لمنافسات كأس العالم لكرة القدم حاليا فى البرازيل)

 

تاريخياً تمثل فضولى الجامح فى رغبتى لإثارة الأسئلة الصعبة والركض غير المجدى فى أغلبه بغية البحث عن إجابات لها. أعتقد العديد من زملائى فى الدراسة حينذاك أن فضولى هذا قد يكون وراء تفوقى فى مادة التاريخ ورسوبى المتكرر فى مادة الرياضيات خاصة فى مرحلة الدراسة الثانوية. وأنا بدورى اسألكم سادتى: ماذا يجدى الفضول فى الرياضيات التى لا تتطلب إلا ذكاءً مملاً ودماغاً رتيباً ومرتباً، فالكل يعرف أن (اثنين زائد اثنين تساوى خمسة)؟ من يشك فى ذلك عليه أن يسأل وزيرنا العبقرى الذى بشرنا قبل فترة قصيرة بأن اقتصادنا سيكون فى مصاف الدول المتقدمة فى سنوات قلائل.

 

أما التاريخ فأبواب الفضول فيه مفتوحة على مصراعيها والخيارات متعددة كما إن الغوص فى بطون التاريخ طريق ذو إتجاهين يذهب بنا تارة للماضى ويعيدنا إلى الحاضرتارة أخرى فى تواتر متناسق وفريد. يكفى فقط التأمل فى المقولة الشهيرة لملكة فرنسا (مارى انطوانيت) عندما أخبروها أن الشعب لا يجد خبزاً فردت متسائلة: “لماذا إذن لا يأكلون (الجاتوه)؟” (qu’ils managent des gateaux?) وكلما تمعنت هذه المقولة التاريخية تبدت لى أبعادها الحقيقية فبخلاف أن الملكة المسكينة لم تكن تدرى أنه بسببها ستفقد رأسها (فعلياً وليس مجازياً) فالعبارة نفسها جرى ترديدها بتنويعات وأشكال وتعابير مختلفة عبر التاريخ الحديث من أناس يبدو أنهم لم يستوعبوا قط ما جرته لصاحبتها من (وجع الرأس). خذ مثلاً العبارة الإنقاذية الخالدة (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) والتى قامت على إثرها وبسببها مقاصل (التمكين) لتأكل مشروع الجزيرة وتتدثر بمصانع النسيج فى تأكيد (متعافى) لمقولة ابن خلدون “لو عمل السلطان بالتجارة لفسدت التجارة ولفسد السلطان”. ثم أننا نبدو أوفر حظاً حالياً من الشعب الفرنسى فى آواخر القرن التاسع عشر، فقد لا نأكل (الجاتوه) كل يوم ولكننا نلتهم (الهوت دوق) و(البيتزا) و(الهامبيرقر) فى شراهة يحسدنا عليها حكامنا. هل التاريخ يعيد نفسه حقيقةً أو يعيد نفسه كمهزلة كما قال أحد الفلاسفة؟

 

لا أريد سادتى ان تفهموا اننى ألهث دائماً فى كل سانحة وراء إشباع فضولى من غير تريث فأنا أضع لنفسى خطوطاً حمراء فيها ما يختص بالدين. لن أطلب من الشيخ المكاشفى مثلاً أن يفتينا فى حكم من تقٙوّل عليه سبحانه وتعالى وأن يفعل ذلك بنفس القطعية التى فصل فيها هذا الشيخ فى حد الردة ليس فقط بحكم اصراره على تنفيذه فى قضية (مريم) بل بمشاركته فى تنفيذه فى ١٨ يناير ١٩٨٥ فى تفشى وتزمت لا يليق عادة برجال الدين. ولعل الذكرى تنفع المؤمنين.

 

ولكن شهيتى الفضولية تفتحت وأنا أقرأ أن متنفذاً إنقاذياً آخر هو وزير الصحة الولائى سأل مرافقيه أثناء طوافه فى مركز غسيل الكُلى بأحد المستشفيات: “انتو العيانين الكتار ديل بتجيبوهم من وين؟”. ذكرنى هذا بسؤال الراحل الطيب صالح: من أين أتى هؤلاء؟ الفارق طبعاً أن تساؤل الطيب صالح كان تقريرياً إستنكارياً لا يحتاج لإجابة فالكل يعرف من أين أتى هؤلاء. أما سؤال السيد الوزير فهو يدفع للفضول لأنه يثير العديد من الإحتمالات التى كان يمكن أن تكون محور اهتمامه والصيغ البلاغية التى كان يمكن أن يوجه بها سؤاله. فهو لم يسأل مرافقيه من أطباء واداريين: “انتو العيانين الكتار ديل جايين هنا يعملو شنو؟” أو “انتو العيانين ديل كتار فى الحته دى ليه؟” أو “العاينين الكتار ديل ما عندهم حته تانية يمشو ليها” أو بصيغة (المتمكن) المستنير: “انتو رابطين الحاجات الغالية دى فى العيانين الكتار ديل ليه؟” أو حتى أن يسأل (العيانين) أنفسهم: “انتو يا كتار جيتو من وين والجابكم هنا شنو؟”.

 

كعادتى قررت أن اقوم بالتحرى بنفسى بحثاً عن إجابات للاسئلة التى لم يسألها السيد الوزير. أتصلت بصديقى السفير السابق وطلبت منه ان يمرعلىّ بعد أن يتأكد أن خزان (ركشته) ملئ بالوقود لأننا سنذهب اولاً إلى مراكز غسيل الكُلى بالمستشفيات وبعد ذلك نتوجه فى زيارات ميدانية للكلاكلة والحاج يوسف وأمبدة ضمن جولتنا الشاملة فى أرجاء ولاية الخرطوم المختلفة ويمكن فى بعض الولايات المجاورة. وأنا أضع اللمسات الأخيرة لهذا المسح الميدانى الهام لمرضى الكُلى رن هاتفى وأخبرنى محدثى أن الإمام قد تم إطلاق سراحه. وجدت نفسى أصيح: “ده شنو يا لجنة الوساطة؟ قبل ما ننتهى من قصة (حميدة) تقومو تحنسو (حميدتى) يلف البلف ويفك (الحبيب)؟”

 

 

الخرطوم ١٨ يونيو ٢٠١٤


Back to Top