Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٢٠): (بضاعة) الست سامية

Al-Rakoba 8 June 2014

(بضاعة) الست سامية

 

 

فى حديث لها قبل أيام عٙددت نائبة رئيس المجلس الوطنى سامية أحمد محمد مآثر حكم الإنقاذ خلال ٢٥ عاماً ونفت بشكل قاطع أن يكونوا “جاثمين على صدور الناس” طوال هذه السنين، “لأننا خرجنا من قلب المجتمع السوداني، وكونا حزباً ودولة، والآن نبني في أمة”. وقطعت (السامية) بان الإنقاذ من أقوى الحقب التي حكمت السودان، وتحدت من يدعى غير ذلك قائلة: “العندو أفضل مننا من خارج السودان يعرض بضاعته في سوق السياسية”.

 

ومن شدة إنبساطى وسرورى بما قالته سيادتها وجدت نفسى أهتف “قطعت جهينة قول كل خطيب”! ومبعث إعجابى يا سادتى هو هذه البلاغة الكلامية الإعجازية فى تجسيد كل هذا الكم الفكرى والعقائدى والبرنامجى فى كلمة ببساطة (بضاعة) يتفهمها عامة الناس لتعاملهم معها فى عسر قد يقل أو يزيد فى حياتهم المعيشية، ويتعاطاها عِلية القوم من (المتمكنين) مُطعمة بتفسيرات (فقهية) نبيلة تضفى على حياتهم بعداً روحياً ومعنىً دينياً لا يتعارض مع راحتهم البدنية ويسرهم المادى.

 

تلفتُ إلى حفيدى الذى كان يلهو تحت مكتبى وقلت له: ” شايف الكلام السمح ده يا ولد، كده الكلام الجد ولاّ بلاش، ده كلام نسوان مش رجالة”!

 

بعد برهة سألنى حفيدى: “طيب ياجدو، يعنى البلد ما فيها رجالة؟”

 

حقيقة احترت فى الإجابة ولكنى تذكرت فجأة أن قوات الدعم السريع قد نشرت ألويتها داخل وحول عاصمتنا القومية حتى تقوم بتأميننا وحمايتنا (حتى “ننوم مرتاحين” كما طمأننا العميد حميدتى). نبهت حفيدى لتلك النخوة (الرجالية) الهامة والتى أثبتت فحولتها التامة فى دارفور وجنوب كردفان. ثم تابعت إعادة قراءة حديث سامية أحمد محمد التاريخى حتى يتشرب دماغى بابعاده العقائدية والفلسفية المتعددة.

 

ولكن قطع علىّٙ خيط تركيزى صوت حفيدى وهو يسأل: “لكن يا جدو هى قالت (من خارج السودان) يعنى الناس (داخل السودان) ما يعرضو بضاعتهم؟”

 

بدأت اشعر بالضيق من مقاطعته فنهرته صائحاً: “أسمع يا شافع لمن عمرك يبقى أربعة سنين حتعرف انه لا تقدر تعرض أى بضاعة فى الداخل إلا إذا كنت من (المتمكنين). ثم إن البضائع المعروضة محليا لها ضوابط لا يقدر عليها أى زول ففى بضائع يتم التعامل معها (بفقه التحلل) وفى حاجات لازم التعامل معها (بفقه التحكيم)، عشان كده افتكر لازم العاوزين يعرضوا بضاعتهم من خارج السودان هم من دول الإستكبارالتى دنا عذابها أوعلى الاقل من المتمردين المدعومين من الصهاينة واعداء الإسلام”.

 

توقفت برهة لأنظر لحفيدى وهم يتطلع إلىّٙ وبراءة الأطفال فى عينيه. هممت أن أنوره عن البضاعة المحلية (ذات الدفع الرباعى) التى يتم التعامل معها (بفقه السُترة) ولكنى اقنعت نفسى بالتريث حتى يبلغ سن الحُلم فهو غالبا لن يفهم ما سأقول ولكن يمكن ايضاً أن يطلع (مدردح) ويعرضنى لأسئلة محرجة (“والدفع الرباعى ده ياجدو كيف نسويه فى وقت واحد وكمان فى نهار رمضان؟”).

 

لعنت ابليس لهذا المنحى غير المنطقى وغير العلمى لتفكيرى وأمعنت النظر فى حفيدى فى محاولة لإقناع نفسى ان هذا هذا الكائن البرئ الذى يلهو تحت مكتبى لا يمكن أن تتسرب إلى ذهنه الغض مثل هذه الأفكار السوداء التى تراودنى. رأيته فى مخٙيّلتى وهو يخطو اولى خطواته فى مرحلة (الأساس) والتى قد تكون سنواتها قد تقلصت بحيث يصعب رؤيتها بالعين المجردة أو زادت لتصبح (من الأساس للقبر رأسا) على حسب مزاج من ترمى به الأقدار وزيراً أو وزيرة للتعليم فى هذا البلد السعيد. تخيلته فى المرحلة الجامعية وهو يخرج من معارك السيخ والحريق مثخناً بالجراح ولكنه يحمل بعد سنين طوال شهادة التخرج التى لا تساوى الورقة التى كُتبت عليها. فهو لن يملك رصانة وبلاغة نائبة رئيس المجلس الوطنى فى اللغة العربية ولن يفقه أى لغة من لغات (دول الإستكبار). تخيلته – حفيدى هذا – خريجاً عاطلاً حفيت قدماه وتحجر دماغه من كثرة المعاينات التى يُطلب منه فيها ذكر اسماء شهداء موقعة بدرأو تحليل العلاقة العضوية بين نزول (سورة الأنفال) وإقامة (مول الأنفال) فى شارع المشتل بالرياض !

 

طردتُ هذه التخيلات المؤلمة من خاطرى وقررت أن أكون أكثر تفاؤلاً فرأيت حفيدى يعمل بعد التخرج فى مكتب الوالى وبعد أن يبنى عمارته الرابعة يعين مديراً للأراضى حيث تتوالى وتتكاثر استثماراته ثم يعين وكيلاً لوزارة العدل ويكتشف أن هذه الوظيفة، التى لم تكن تخرج عن نطاق الخدمة المدنية العادية، تضعه فوق المساءلة القضائية أو الإدارية وتجعله (جاثما) أبدياً على الدستور والقانون وأنفاس العباد ومنافذ التعبير.

 

صحوت من تهويماتى تلك على صوته وهو يسأل: “بعدين ياجدو سوق السياسة ده وين؟”

 

أُسقط فى يدى فلم أعرف أى سوق للسياسة تقصده نائبة رئيس المجلس الوطنى والذى يُمكن لمن هو خارج السودان أن يعرض فيه بضاعته. فكرت أنها قد تقصد المجلس الوطنى نفسه. وبما أنها بحكم المنصب يمكنها تقييم وتسعير أية بضاعة واردة من الخارج فإن ذلك يجعل المنافسة معدومة بالضرورة، خاصة ان المجلس إياه يضم أيضا شيخ (الختان) والعقد الفريد من عباقرة التشريع التصفيقى والهتافى. هذا اذا أفترضنا أن هناك معارضة سودانية ذات صفة اعتبارية بالخارج وليست مثلاً متواجدة داخلياً فى دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق، اللهم إلا أذا تم تطبيق نظرية (مثلث حمدى) المثالية من غيرأن يتم إخطار(الحلو) و(عقار) بذلك.

 

فكرت فى أن إنتخابات ٢٠١٥ الموعودة قد تكون هى المقصودة بسوق السياسة. ولكنى واجهت نفس اشكالية التوفيق بين إنتخابات قومية، رئاسية كانت أو برلمانية، وبين مرشحين هم من (خارج السودان) أصلا أو قد لا تطالهم يد السلطة داخل السودان، سواء أكانوا أفضل أو أسوأ من الإنقاذ أو صادرة بحقهم احكام بالإعدام.

 

قرأت كلمات (الست سامية) عدة مرات والغريب أن فهمى لمعناها الكُلى كان يتغير بإنتقال تركيزى الذهنى من كلمة لأخرى مما يدل على قصور مستحكم لمقدرتى الإستيعابية فى تفهم أبعادها المتكاملة. تلفتُ نحو حفيدى وقبل أن اعترف له بعجزى عن تعريف (سوق السياسة) طرق سمعى صوت المذيع فى التلفاز وهو يعلن التقدم الملحوظ لليمين المتطرف فى فى إنتخابات برلمان الإتحاد الأوربى. عندها زالت الغشاوة من عينىّ وأختفى التبلد من تفكيرى وأدركت أن وراء البلاغة فى حديث (الست سامية) تكمن أيضا حنكة سياسية وحكمة إستراتيجية وعبقرية تسويقية لبضاعتها تعدت السوق المحلى لتغرق أيضا السوق الأوربية.

 

أمسكت بيد حفيدى الصغير وأخبرته والدموع تنهمر من مقلتىّ أنه قد “جاء الحق و زهق الباطل” وأن الوقت قد أزف للتخلى عن العناد العبثى والمعارضة غير الخلاقة وأننى قررت أن أقوم (بوثبة) حوارية من جانبى أعلن فيها توبة نصوحا على يد الشيخ دفع الله طالبا منه أن يدثرنى بفقه (الضرورة) وفقه (السُترة) حتى لو اقتضى الأمر إعادة (ختانى) أو حرمانى من مشاهدة مباريات كأس العالم.

 

ولكم سادتى أن تتخيلوا مدى سعادتى وإفتخارى عندما أجابنى حفيدى قائلاً: “وأنا برضو يا جدو حأمشى أطلع أوراق التخرج بتاعتى من روضة (اسرقنى وتحلل) النموذجية وأروح طوالى على الشغل الما خمج فى مكتب الوالى”!

 

 

الخرطوم ٨ يونيو ٢٠١٤


Back to Top