Mohamed Beshir Hamid

ما بين الصومال وسوريا

ما بين الصومال وسوريا:

النهج “الأخلاقى” و”الٳنتقائي” و”الآحادي” للتدخل العسكرى الأمريكى

 

 

قبل عشرين عاماً قدمت محاضرة عامة فى مركز وودرو ويلسون للدراسين الدوليين فى واشنطون

(Woodrow Wilson Centre for International Scholars)

والذى كنت حينها أعمل فيه كباحث مقيم. وكان عنوان المحاضرة:

(The American Humanitarian Intervention in Somalia: Revisiting ‘The White Man’s Burden’?)

(التدخل الأنسانى الأمريكى فى الصومال: هل يعيدنا لمفهوم “عبء الرجل الأبيض”؟) كانت المحاضرة  فى بداية عام ١٩٩٣أى بعد أسابيع من التدخل الأمريكى  فى ديسمبر ١٩٩٢والذى انتهى فى آخر الأمر الى كارثة للسياسة الامريكية وأدى الى حالة التشرذم والتمزق والٳقتتال الذى يعيشها الصومال حتى يومنا هذا. وقد رأيت ترجمة المحاضرة لسببين: الأول هو أن الحوار الذى يدور هذه الأيام حول التدخل العسكرى فى سوريا يجرى فى جانب منه  لتفسير وتبرير التدخل  بنفس الأسباب الأنسانية والأخلاقية التى وردت فى تفسير وتبرير التدخل فى الصومال. والثانى هو تصورى أن نفس السيناريو الصومالى من المتوقع تكراره فى سوريا فى حالة الضربة العسكرية الأمريكية مع الفارق فى أن التأثير المتوقع على سوريا والدول المجاورة قد يكون أكثر خطورة وأبلغ أثراً وذلك لموقع سوريا الأستراتيجى فى قلب الشرق الأوسط. ونظرة عابرة لخارطة المنطقة توضح مخاطر اللعب بالنار فى ذلك الجوار الجغرافى الملتهب سياسياً أصلاً والقابل دوماً للاشتعلال عسكرياً.  فى ما يلى ترجمة مختصرة للنص الأنجليزى الذى تم تنزيله من تسجيل مركز وودرو ويلسون للمحاضرة وسأحاول فى نهاية هذا المقال توضيح ما أراه من أوجه التشابه والٳختلاف بين الأزمتين وما يمكن ان نستنتجه عن مآلات الأزمة السورية على خلفية ما حدث فى الصومال :

 

ٳن التدخل العسكرى الأمريكى فى الصومال قد تم تبريره على أنه “ضرورة أخلاقية”. فالرئيس بوش قد أعلن للجنود الأمريكيين أنهم ذاهبون للصومال لأداء “عمل الرب” (to do God’s work). وفى مقال فى صحيفة (الوول ستريت جورنال) بعنوان (أعِيدوا اللورد كيتشنر) علق الكاتب قائلاً: “ان ما فعلته عملية عاصفة الصحراء فى حرب الخليج  للمصداقية العسكرية لأمريكا، يمكن أن يفعله غزو الصومال لمصداقية أمريكا الأخلاقية”. وفى مقال فى مجلة (تايم) بعنوان (الحق أحياناً يبرر القوة) قال الكاتب: “أن ما يجعل التدخل الأمريكى فى الصومال يبدو مُلهماً، وﺇن كان لا يخلو من منزلاقات، أنه قد يكون المرة الأولى منذ الحروب الصليبية يتم فيها غزو عسكرى لأسباب أخلاقية بحتة”.

 

ولعل هذه المقولات وما شابهها من مشاعر تعكس الهاجس الأمريكى لٳضفاء صفة الفضيلة لأعمالهم وهى فضيلة ذاتية التعريف سياسياً وذاتية التبريرأخلاقياً. وقد لا يبدو أى جديد فيها فالأمثلة عليها قد لا ترجع للحروب الصليبية ولكنها بالتأكيد تعود لدعوة الرئيس وودرو ولسون بُعيد الحرب العالمية الأولى “لجعل العالم آمناً للديمقراطية” ولِما دأبت عليه الولايات المتحدة فى وصف الحرب الباردة بمفاهيم أخلاقية كقول وزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس فى الخمسينات فى شجب حركة عدم الٳنحياز بأنها “عمل غير أخلاقى” وكوصف الرئيس ريجان للٳتحاد السوفيتى بأنه يمثل “ٳمبراطورية الشر”.

 

من الواضح أن الدافع الحقيقى للسياسة الخارجية عامة ليس عاملاً أخلاقياً أو ٳنسانياً وٳنما ٳعتبارات لمصالح ذاتية وليس فى ذلك ما يُعيب فتلك هى الغاية من السياسة الخارجية لأى دولة وقد يكون من المفارقة أن النزعة الامريكية لخلق ضبابية فى الخط الفاصل بين المصالح والمُثل قد أثار الشكوك والقلق من تدخلها فى الصومال والذى هو فى غياب مصالح حيوية وضاغطة لأمريكا فى ذلك البلد المنكوب قد ينحو حقيقةً الى المثالية أكثرمن أى شىء آخر. السؤال الذى يطرح نفسه ٳذن: كم هو ٳنسانى هذا التدخل “الٳنسانى” فى الصومال، أو بتعبير آخر ما مصداقية الدعاوى الأخلاقية والٳنسانية التى تم تدثيره بها؟  ﺈن هناك عوامل عدة تلتحف قرار التدخل وهى تنحو فى مجملها لٳثارة الشكوك حول دوافع القرار اكثر من تأكيد ٳنسانيته.

 

سوف يتمحور حديثى فى ثلاثة عوامل. العامل الأول يتعلق بتوقيت قرار التدخل، (decision timing) فلقد وُصف القراربانه كان يتميز الى حد كبير بالعفوية والتلقائية وحقيقةً فقد كان قراراً غير متوقع وغير عادى.كان غير متوقع لأن ٳدارة بوش لم تكن تحت أية ضغوط فوق العادة لٳتخاذه كما أن أبعاد المأساة الصومالية لم تكن شأناً جديداً أو طارئاً تفاجأت به الحكومة الأمريكية. وقد كان القرار غير عادى لأنه ليس من العادة أن يقوم رئيس فى وضع انتقالى  (Lame-duck President) بٳتخاذ قرارات مهمة فى السياسة الخارجية، تتضمن وتتطلب تحركاً وٳلتزاماً عسكرياً، قبل أسابيع من تسليمه السلطة للرئيس الجديد المنُتخب. فما الذى دفع بوش لٳتخاذ هذا القرار؟

 

هذا السؤال قد جرى طرحه فى أجهزة الٳعلام وقُدمت أطُروحات عِدة فى الٳجابة عليه منها أن الرئيس بوش قد يكون قد شعر ببعض المهاناة لعدم ٳعادة ٳنتخابه لفترة رئاسية ثانية ورغِب فى ترك الرئاسة بعمل (ٳنسانى) كبير يؤمن له مكانته التاريخية. وتفسير لنفس هذه الأطروحة من منطلق مختلف أن بوش لم يكن فى ٳمكانه ٳتخاذ هذا القرار أثناء الحملة الانتخابية خشية ٳتهامه بالٳنتهازية السياسية فقرر ٳتخاذه بعد الٳنتخابات. وهناك من ذهب – خطأً فى ٳعتقادى – ٳلى أن الحزب الجمهورى أراد توريط الرئيس الجديد كلنتون فى أزمات وتعقيدات خارجية لصرف نظره عن الوفاء بتعهده خلال الحملة الانتخابية بالتركيز على سياسات داخلية يعارضها الجمهوريون. ولكن التفسير الأقرب للحقيقة هو أن الرئيس المنُتخب كلنتون لا بد أن تكون قد تمت مشاورته فى قرار بمثل تلك الأهمية وموافقته عليه مما يدل على أنه لا مجال للتمييزالكبير بين الحزبين في مجال السياسة الخارجية خاصة ما يتعلق بالهيمنة الأمريكية.

 

ومهما كانت الكيفية التى تم بها التوصل لقرار التدخل فى الصومال فٳن مسالة توقيته والٳسراع فى ٳرسال القوات الى هناك لا بد أن تثير الشكوك حول دوافعه فى نظر الكثيرين فى العالم الثالث. فلا أحد يجادل فى أن الحرب الأهلية هناك قد خلّفت كارثة مجاعة كبرى ولكن ما يثير التخوف هو ٳحتمال أن تستغل أمريكا الوضع لتقوم بٳعادة ترتيب الأوضاع فى منطقة القرن الأفريقى بنفس الطريقة التى تنتهجها حالياً فى تقسيم وٳعادة ترتيب الأوضاع فى العراق ٳثر حرب الخليج.

 

العامل الثانى يتعلق بالنهج الٳنتقائى أو المعيار المزدوج (selective or double standard)  فى السياسة الأمريكية. لماذا الصومال وليس البوسنة أو السودان أو ليبيريا أو كمبوديا؟ ٳن المأساة الٳنسانية فى كل من هذه الدول قد لا تقل فى أبعادهاعن ما يحدث فى الصومال فلماذا لم تحظ هى الأخرى بمثل هذا التعطف الأمريكى؟ ٳن الٳجابة من وجهة النظر الأمريكية لا تخلو من وجاهة: فقد تم ٳختيارالصومال لأن الوضع فيه يلائم المعالم العامة التى وضعتها القيادة العسكرية للتدخل المسلح فى الأزمات والتى يمكن تلخيصها فى الآتى: أولاً، أن يكون ممكناً أدارة الأزمة عسكريأ. ثانياً، أن تكون للمهمة العسكرية أهدافاً محددة وواضحة التعريف. ثالثاً، أن يكون التدخل آخر الملاذ وليس أوله . رابعاً، أن تكون نسبة الخسائر البشرية المتوقعة قليلة. وخامساً، أن يكون هناك توافق دولى حول التدخل بمعنى أن تحصل الولايات المتحدة على غطاء دولى من الامم المتحدة لتدخلها.

 

ولكن من وجهة نظر أفريقية فٳن أسباب التدخل الأمريكى تبدو مختلفة تماماً ولا تقل وجاهة. أولا،ً هناك ٳعتقاد سائد أن ٳختيار الصومال لم يكن لأسباب ٳنسانية وٳنما لأنه يٙصرف النظر عن التدخل الأكثر كلفة وصعوبة فى مناطق أخرى. ثانياً، الجانب الآخر لهذه المقولة هو أن الصومال تشكل أرض ٳختبارات للٳستراتيجية العسكرية الأمريكية فٳذا نجحت تجربة التدخل هناك فيمكن تطبيق الدروس المستفادة فى أماكن أخرى من أجل ترميم النظام العالمى الجديد الذى ولد من غير أن يتم تعريف وتحديد ملامحه. فالدعوة للتدخل الٳنسانى تكتسب جاذبية أكثر ٳذا كانت الكارثة الٳنسانية فى بلدان ضعيفة مما يجعل التدخل أقل كلفة وخطورةً. ولكن هذا فى حد ذاته ينفى صفة “الٳنسانية” أو “الأخلاقية” عن التدخل ٳذا كانت حساباته بمعيار تكلفة الربح والخسارة أو المصاحة الذاتية. وهناك تخوف أيضاً أن يقود هذا النهج الٳنتقائى ٳلى ٳفتعال أزمات أو حروب أهلية أو ٳقليمية بهدف تغيير أنظمة أو أوضاع سياسية فى غياب نظام دولى متماسك ومتوازن. ومما يغذى هذا التخوف أن الولايات المتحدة قد أخذت على عاتقها أن تقوم بدور الشرطى العالمى مما قد يغريها بٳنتهازالفرص لٳعادة ترتيب بعض الأوضاع القطرية أو الٳقليمية أو الدولية كما تراه مناسباً لآحادية وضعها عالمياً.

 

العامل الثالث هو النهج الآحادى (unilateral approach) فالتدخل فى الصومال كان قراراً أمريكياً خالصاً أعطاه قرار مجلس الأمن بالموافقة عليه غطاءً قانونياً. ولكن قانونية هذا الغطاء تقوم على أرضية هشة فهو يتعارض مع مبدأ عدم قبول التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء من غيراذن أو دعوة من الحكومة المعنية. وقبل أزمة الصومال كان مثل هذا التدخل يُدان كٳنتهاك لسيادة الدولة أو كعدوان صارخ عليها. ولكن فى حالة الصومال أمكن تمرير هذا القرار بدعوى أن الدولة قد تقسمت وأن الحكومة قد تجزأت الى فرق متشاحنة فلم يتبقى ما يمكن ٳعتباره حكومة. ولكن مثل هذا الٳدعاء يثير من جديد مسالة “الٳنتقائية” فلماذا يتم اختيار الصومال الذى لم يطلب التدخل فى حين يتم تجاهل البوسنة التى لا تزال تستجدى المجتمع الدولى التدخل فى شئونه الداخلية ٳثر تٙقسُم دولة يوغوسلافيا! وماذا عن السودان الذى تتولى حكومته بنفسها مهمة تقتيل وتجويع مواطنيها؟ 

 

ٳن النهج الآحادى يثير تساؤلاً أساسياً: من يملك القرار فى أن التدخل أصبح مبرراً؟ هل هو المجتمع الدولى (الأمم المتحدة) أم هى الدولة المهيمنة (الولايات المتحدة)؟ مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تملك الباع الطويل دولياً للتعامل مع الأزمات وحالات الكوارث وللقيام بنوع العمليات كالتى تمت فى الصومال. ولكن هذه القدرة فى حد ذاتها تصبح مصدراً للتخوف من الدوافع الحقيقية وراء تفعيلها.

 

وهذا يقودنا ٳلى تعقيد آخر للنهج الآحادى وهو: ما هى أهداف التدخل وما هو دور الأمم المتحدة فى تنفيذها؟ لقد أعلن الرئيس بوش ان المهمة العسكرية تهدف ٳلى معالجة سريعة (‘quick fix’) لتأمين الوضع عسكرياً ولتمهيد الطريق لبعثة الأمم المتحدة لتولى مهمة حفظ السلام. ولكن السلام يجب صنعه أولاً (peacemaking) قبل الشروع فى المحافظة عليه (peacekeeping) وصُنع السلام هذا عملية سياسية فى المقام الأول ومن هنا تختلط عملية التدخل العسكرى منذ البداية بالعملية السياسية والتى قد تصل لبناء الدولة (nation-building) وهى مهمة لا يُمكن معالجتها سريعاً ولا يٙملُك العسكر الٳلمام بمتطلباتها المعقدة أو التأهيل اللازم لتنفيذها. ومن هنا يبقى دور الأمم المتحدة غير واضح المعالم والأهداف. هل هو ٳقامة وصاية دولية (Trusteeship) على الصومال بكل ما يحمله هذا التعبير للأفارقة من ذكريات مؤلمة؟ ٳن عدم وضوح الأهداف وعدم التفرقة بين المهام العسكرىة والسياسىيىة قد يفسر تأزم العلاقة بين الوجود العسكرى الأمريكى وبعثة الأمم المتحدة.

 

ومنذ نهاية الحرب الباردة وبروز نظام القطب الآحادى (uni-polar system) فى المجال الدولى فٳن بعض الأبقار المقدسة قد جرى ذبحها أو هى فى طريقها حالياً ٳلى المسلخ؛ أولها مفهوم “السيادة الوطنية” فالدولة التى تسئ استعمال السلطة أو تفقد القدرة على حكم نفسها قد تجد نفسها عُرضةُ للتدخل الخارجى بدعاوىٍ ودرجاتٍ مختلفة. وما كان فى الماضى يُعتبر أموراً داخلية أضحى الأن شأناً دولياً والسلطة السيادية لم تعد حقاً مقدساً غير قابل للٳنتزاع. وثانى الضحايا هو قوى القومية (nationalism) التى بدأت فى التضاؤل تحت ضغوط مصادر أقل للهوية تقوم على الٳثنية أوالدين أوالقبلية أو العشايرية. وهذه المصادر فى حد ذاتها تُشكل أوضاعاً أكثر ملأمةً لدعاوى التدخل الخارجى. وثالثاً فٳنه بٳنهيار توزان القوى الدولى فقد انهارت معه سياسة الردع المتبادل (mutual deterrence) مما أدى الى قبولٍ، أغلبه على مضض، بالدور المتعاظم للولايات المتحدة دولياً.

 

وأخيراً فٳن النهج الآحادى الأمريكى يكتسب تعقيداً أكثر بدور الٳعلام فى التأثير عليه فمقدرة وسائل الٳعلام فى بث صور المجاذر والمجاعات والٳقتتال مباشرة عبر القارات ٳلى داخل غرف الجلوس فى أمريكا قد غيرت فى حسابات التفاضل الأخلاقى والسياسى، وكما قال أحد المعلقين الأمريكيين: “هل سينتهى بنا الأمر ٳلى ٳنقاذ الصومال وتجاهل السودان لأن الصوماليين يبدون فوتوغرافياً أكثر جذابية؟”. فالمشكلة تكمن فى أهلية الٳعلام فى التأثير على قرارالتدخل وربما أيضاً تحديد وجهته.

 

وأود أن أختتم حديثى هذا ببعض الملاحظات العامة. أولا، أن مفهوم “الأخلاقيات” (morality) فى العلاقات الدولية يكتنفه الكثير من الغموض ويمكن النظر ٳليه من زوايا متعددة ومتباينة وقد يجر الى مزالق خطرة قد تقود ٳلى ٳفتعال معارك جانبية تهدد المصالح القومية الحيوية لكل الأطراف المعنية. ثانياً، أن ٳنتصار الغرب فى الحرب الباردة لم يؤدﱢ ٳلى زوال التناقضات فى العلاقات الدولية بل ربما زاد من تعقيداتها وحدتها فنحن لا نشهد نهاية التاريخ وقد نكون شهوداً فقط على تكرار بعض فصوله الخاصة بهمينة متعاقبة للٳمبراطوريات. ثالثاً، هناك توافق فى العالم الثالث بالذات على ضرورة ٳصلاح الأمم المتحدة ليصبح دورها أكثر فعالية وأهدافها أكثر وضوحاً وتحديداً لكن ليس هناك ٳتفاق على نوعية وكيفية الٳصلاحات المطلوبة، كما انه ليس واضحاً ٳذا كانت أية ٳصلاحات ستؤدى الى تقليص دور الولايات الأمريكية أوستكون مقبولة لها فى نظام عالمى جديد لم تتضح بعد أبعاده ولا أحد يدرى ٳلى أين سينتهى المطاف به على وجه التحديد.

 

يبدو أنه قد مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ أوائل تسعينات القرن الماضى ٳلى اليوم شهد العالم خلالها  التدخل فى البوسنة وحروب العراق وأفغانستان والتدخل الأخير فى ليبيا ويقف اليوم على مشارف تدخل أمريكى فى سوريا. وما قد يكون مثيراً للٳنتباه أن العوامل الثلاثة التى لازمت التدخل فى الصومال يجرى ٳجترارها الأن بدرجات متفاوتة لتبرير الضربة الجوية المرتقبة على سوريا. فالعامل الأخلاقى والأنسانى يتمثل فى التشديد على ضرورة معاقبة النظام السورى (وكأنهم يتحدثون عن طفل مشاغب) حتى لا يعود لفعلته الشنعاء بمهاجمة مواطنيه بالسلاح الكيميائى. وقد استعمل وزير الخارجية جون كيرى تعبير “الٳنحطاط الأخلاقى” (“moral obscenity”) فى ٳدانته للنظام.السورى. ولا يكتفى التبريرالأخلاقى بضرورة تأديب بشار الأسد بل يرمى كذلك ٳلى ٳرسال تحذير الى كل من (آية الله على خامنئى) و(كيم جونق ان) بأن يد أمريكا الطويلة ستطالهما أيضاً ٳذا حاولا ٳستخدام أسلحة الدمار الشامل فى أعمال عدوانية.

 

وهنا ترتبط الحجة الأخلاقية بدواعى الأمن القومى فلم يعد التبرير الأخلاقى والٳنسانى يكفى أمام الشعب الأمريكى الذى أنهكته حروب العراق وأفغانستان وزعزعت ثقته فى قادته، بل أن دواعى الأمن القومى نفسها قد فقدت مصداقيتها كما يبدو واضحاً فى الحوارالأمريكى الدائر حالياً حول سوريا (٦٠٪ من الأمريكيين ضد الضربة الجوية) ومما زاد فى البلبة التناقض الواضح فى سياسة الٳدارة الأمريكية فى الربط بين محدودية الضربة الجوية والردع المرتقب وفى الجمع بين تحرك عسكرى لزعزعة سوريا وتوقع غير منطقى فى أن يصبح جزءاً من استراتيجية أوسع “لٳحلال السلام والٳستقرار ليس فقط فى سوريا بل فى المنطقة كلها”.

 

أما عامل الٳنتقائية فى ٳستهداف سوريا فتنطبق عليه الحالة الصومالية فى كون سوريا أضعف الحلقات فى منظومة الدول المعادية للولايات المتحدة ويثير أيضاً نفس التساؤل: لماذا سوريا وليست ايران أو كوريا الشمالية، فسجلهما الأخلاقى والٳنساني من وجهة النظر الأمريكية لا يقل سوءاً وتهديدهما الٳستراتيجى يفوق بكثير أى تهديد سورى؟ كما أن الحرب الأهلية فى سوريا، شأنها فى ذلك حالة الٳقتتال التى كانت قائمة فى الصومال، شكلت الخلفية التى بُنى عليها خيار التدخل العسكرى. ولكن قرار الضربة العسكرية لسوريا فى توقيته وربما فى مسبباته قد تكون الصدفة أو الغفلة أو العفوية أدت دوراً فيه فقد صرح أوباما فى أغسطس من العام الماضى أن استعمال الأسلحة الكيميائية فى سوريا “يشكل خطاً أحمراً” يستدعى رداً أمريكياً حاسماً. ومع عدم التقليل من بشاعة موت المئات بغاز “السارين” فٳن ٳدعاء “الخط الأحمر” يثير تساؤلاً عن لماذا لم يتحرك الوازع الأخلاقى/الٳنسانى هذا عند أوباما لموت الألاف خلال أكثر من سنتين من الٳقتتال الطائفى والسياسى فى سوريا؟ هل كانت حسابت التفاضل فى خيارت الٳستجابة الأمريكية ستكون مختلفة لو لم يكن أوباما قد وضع نفسه، بقصد أو بغير قصد، سجيناً لخطه الأحمر؟ لا احد يدرى غير أوباما نفسه ولكن ما يمكن قوله هو أن سوريا تخطت الخط الأحمر – أو هكذا زعمت أمريكا – وأن أوباما وجد نفسه مثقلاً بتبعات لخطه الأحمر قد لا يكون قد توقعها. ذلك لأن الوضع العالمى فى ٢٠١٣ يختلف عن ما كان عليه فى عام ١٩٩٢فقد أضحىت مسألة الٳنتقائية لا تتعلق فقط بٳختيار الدولة التى يُراد التدخل فيها بل بالطريقة التى يتم بها التدخل. ومن هنا جاء التأكيد الذى ما فتئت ٳدارة أوباما تكرره عن محدودية الضربة الجوية مع الٳستبعاد المطلق لٳستعمال جنود على الأرض فى سوريا. وهذا الوضع قد فرضته عوامل عدة: أولًا اتساع المعارضة داخل أمريكا لأى مغامرات خارجية فالصدمة التى أدخلتها حرب العراق فى النفسية الأمريكية لا تزال بعض أعراضها باقية. ثانياً، على النقيض من التدخل فى الصومال فلم تتحصل امريكا على غطاء دولى للحرب ضد سوريا، فحتى أنجلترا التوأم اللصيق لأمريكا فى السياسة الخارجية قد صوت برلمانها ضد المشاركة فى الحرب. أما الأمم المتحدة فلن تنظر حتى فى هذه القضية وروسيا تلوح بكرت النقض الأحمر ومن ورائها الصين لأى قرار فى مجلس الأمن يستهدف سوريا. بل ٳن الرئيس ڤلاديمير بوتين قد صرح أن روسيا تحتفظ أيضاً بحقها فى الرد فى حالة الٳعتداء على حليفتها سوريا. أما الأمم المتحدة فقد أعلن أمينها العام أن أى هجوم عسكرى فى غير حالة الدفاع عن النفس يفتقد الشرعية والسند القانونى فى منطوق ميثاق الأمم المتحدة.

 

هذه التطورات تنفى الحجة الأخلاقية وتجعل من آحادية القرار الأمريكى شيئا مختلفاً تماماً عن ما كان عليه فى الماضى. ففى كل الحالات السابقة من الصومال – مروراً بالبوسنة والعراق وأفغانستان – ووصولاً ٳلى ليبيا كان قرار التدخل امريكياً ولكنه ٳلتحف غطاءً خارجياً بموافقة مجاس الأمن عليه ووجود تحالف دولى للمساعدة فى تنفيذه. أما هذه المرة فٳن التدخل الأمريكى بضرب سوريا قد يفتقد حتى غطاءً أمريكياً فى حالة رفض الكونجرس الموافقة على الضربة الجوية. وٳذا قرر أوباما رغم ذلك استعمال سلطته الرئاسية كقائد أعلى والمضى قدماً فى ضرب سوريا فستقود المواجهة مع الكونجرس بالتأكيد ٳلى أزمة دستورية خطيرة. ومن المفارقة أن تضاءل فرص الغطاء الخارجى وخاصة فقدان الدعم الٳنجليزى غالباً ما يكون قد حدا بأوباما للمقامرة بطلب التخويل من كونجرس يناصبه أحد مجلسيه عداءً سياسياً غير مسبوق.

 

آحادية القرارالأمريكى فى السياسية الخارجية ٳذن قد تقلصت وفى حالة رفض الكونجرس للتخويل فسيفقد أوباما ومعه الولايات المتحدة أى مصداقية فى مجال السياسة الخارجية قد تمتد أثارها الى مابعد رئاسة أوباما. والمأزق الامريكى يتمثل فى رهان خاسر من جانبين: ففى حالة التراجع عن قرار الضربة هل ستأخذ ايران أو كوريا الجنوبية تحذيرات الولايات المتحدة مأخذ الجد بعد ذلك؟ وبالمقابل هل ستصبح مجردالمحافظة على المصداقية فى حد ذاتها هى الدافع الوحيد للضربة العسكرية؟ ولعل المخرج من هذا المأزق أن يأخذ أوباما قضيته بالبراهين القاطعة والدامغة  التى يدعيها على خرق سوريا لٳتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية الى مجلس الأمن على أمل كسب الدعم أو التفهم الدولى، أو على الأقل التوصل مع الروس لقرار توافقى أو تسوية سلمية للأزمة السورية. أما ٳذا تمت الضربة الجوية حتى بتخويل من الكونجرس ولكن بدون توافق أو تسوية دولية، فالسيناريوهات الواردة تتلخص فى ٳحتماليين رئيسيين:

 

الٳحتمال الأول: أن تؤدى الضربة الأمريكية الى هزيمة وٳنهيار النظام والدولة السورية. ولا بد أن هذا السيناريو قد دخل فى حسابات ٳدارة أوباما ولكن من غير الواضح كيفية التعامل معه فهو يثير عدة أسئلة حول تطورات قد تكون وخيمة العواقب. هل من مصلحة الولايات المتحدة أن تختفى دولة سوريا وهل هناك ضمان أن فوضى ما بعد الأسد ستكون أقل سوءً من الوضع الراهن ؟ ماذا سيحصل لكميات الأسلحة الكيميائية والبايولوجية المخزنة فى سوريا ومن سيقوم بتأمينها تحسباً من لوقوعها فى ٳيدى بعض المجموعات المتطرفة التى يعج بها المسرح السورى خاصة بعد ٳستبعاد التواجد العسكرى الأمريكى على الأرض؟ على من ستقع المسؤلية “الاخلاقية” لضحايا الضربة الجوية من المدنيين؟ ومن سيتولى المسؤلية “الٳنسانية” لرعاية وحماية مئات الألاف من اللاجئيين المتوقع تدفقهم عبر الحدود (اعداد اللاجئيين فى الأردن والعراق وتركيا ولبنان فاقت المليونين حتى الأن)؟

 

الٳحتمال الثانى: قد لا تؤثر الضربة الجوية كثيراً على الوضع الداخلى والتوازن العسكرى فى سوريا. ولو أفترضنا أن نظام الأسد كان وراء الهجوم الكيميائى وهو يعلم أن نتائج عمله لا تتضمن تغيير النظام، كما صرحت بذلك ٳدارة أوباما، فقد تكون حساباته هى ٳمتصاص أى ضربة مهما كانت موجعة. فٳذا كانت أمريكا لا تفهم لماذا قام الأسد بهجومه مع تواجد المفتشين الدوليين فى سوريا فكيف لأمريكا ان تعرف أن الضربة الجوية ستكون رادعة؟ ثم أن النظام ٳذا تمكن من ٳمتصاصها فليس هنك مايمنعه من زيادة العنف الداخلى بما فى ذلك استعمال الأسلحة الكيميائية. فى هذه الحالة ترجع الكرة ثانية الى ملعب واشنطون مع السؤال: ثم ماذا؟ هل تبدأ دورة ثانية من التصعيد وٳلى أين ستنتهى؟ حينها قد يصبح نشوب حرب اقليمية تجر فى أذيالها ايران وحزب الله واسرائيل وربما روسيا ليس فقط  أمراً ممكناً بل محتملاً وفى نهاية الأمرقد يصبح حتمياً.

 

والعلم يحبس أنفاسه فى انتظار قرار الكونجرس الأمريكى الذى لا يمكن حالياً التكهن به، لا يبق غير التأمل فى أسى للمفارقة التى لا يمكن لغير الصراع فى سوريا أن يفرزها: هل يكون براك أوباما الذى أتى للرئاسة متدثراً بمعارضته “المبدئية” و”الأخلاقية” لحرب العراق أول ضحايا مشروع الحرب على سوريا الذى بدأ بنفسه يدق طبوله؟

 

ميريلاند ٧سبتمبر ٢٠١٣


 

Back to Top