Mohamed Beshir Hamid

المجانين

نشرهذا المقال اصلا بالانجليزية فى صحيفة (سودان تايمز) وقام الكاتب بترجمته (للأيام) وفيه إستعراض للأحداث السياسية فى ذلك الوقت وفى النسخة الانجليزية تتشابه كلمة (the Maddies) “المجانين” مع الترجمة الإنجليزية لكلمة “المهديون” (the Mahdis). ويود الكانب أن ينوه بأن الأحداث والشخصيات الواردة فيه ليست بالضرورة من نسج الخيال!!

 

الأيام ٦ يناير ۱۹۸۸م

 

 

المجانين

 

جميل منك أن تتجشم مشاق السفر و تأتى من بلادك البعيدة لإجراء هذا اللقاء الصحفى معى. دعنا نجلس تحت الظل فى الحديقة. هل تجد الطقس حاراﹰ عندنا؟ انك محق تماما ففى بلادكم توجد مناطق ذات طقس مشابه كولاية (اريزونا) التى سبق لى أن زرتها. هل لى أن أقدم لك كوباﹰ من الشاى الساخن؟ أتقول بدون سكر؟ يبدو أنك حضرت وقد وقنت نفسك على مشاركتنا المعاناة المعيشية. ماذا؟ أتشرب الشاى عادة بلا سكر حتى فى بلادك؟ انها بالطبع عادة حميدة – على الأقل معيشياﹰ- ولكنى لم أكن أعلم أنكم تعانون مثلنا من شح السكر وغلائه..هل أملى صندوق النقد الدولى عليكم أيضاﹰ شروطه المجحفة برفع الدعم؟ لقد كنت أعتقد أن هذا “النكد” اللعين تحت أمرتكم ورهن اشارتكم! عفوا أقصد “الصندوق” وليس السكر. ماذا تقول؟ انك لا تملك سيارة ولا تحتاج لشراء الوقود؟ انه لأمر مدهش حقاﹰ ولو كنت أيضاﹰ لا تأكل الخبز واللحوم ولا تحتاج للصابون والزيت والكبريت والكهرباء والماء ومثل هذه الكماليات لطاب لك المقام فى بلادنا والعيش كالملك فى ربوعها. ولكنك قطعاﹰ لن تكون الملك الوحيد فيها!

 

أرى أنك معجب بحديقتى الصغيرة. هل ترى تلك الشجيرات؟ أجل تلك التى تتأرجح بتكاسل بالقرب من حطام سيارتى. لقد زرعتها بنفسى قبل أن يضرب الجفاف والمجاعة بجرانه أرجاء بلادنا ويحيلها دمناﹰ وأطلالاﹰ وينعق فيها البوم وصاحبه الأمام المعتوه، وقبل أن يطل علينا ساستنا الذين هم سادتنا.

 

والآن ماالذى أتيت لمقابلتى بشأنه؟ آه لقد خمنت ذلك وأحب أن اؤكد لك بدءاﹰ ان كتابى هذا ليس من أفضل مؤلفاتى. لماذا سميته “المجانين”؟ هذه مسألة لا تخلو من التعقيد وقصة لها طابع تراجيدى. المسألة يا صاحبى أننى ومن غير إجتهاد مضن توصلت لقناعة بأن البلاد كلها على وشك أن يعتريها مس من الجنون وقد رأيت تحليل هذه الظاهرة قبل أن يستفحل الداء ويصبح الجميع فى عداد المخبولين. دعنى أؤكد لك أيضاﹰ أنه لا مجال للشك إطلاقاﹰ فى مؤهلاتى للكتابة فى هذا الموضوع فأنا نفسى فى زمرة المجانين. لا… أرجوك الا تسئ فهمى فأنا مجنون حقيقة منذ أن تم تكليفى رسميا بذلك، وتلك يا صاحبى قصة اخرى!

 

فأنا اذن لست بمتشائم كما تحاول أن تقول. بربك هل سمعت بمجنون متشائم؟ على النقيض تماماﹰ فأنا متفائل بطبعى، تماماﹰ مثل رئيسكم “راعى البقر” وان كنت لا أتفق مع فلسفته (الكاوبوية) بأن الطريقة المثلى لتحقيق الديمقراطية فى العالم هى محو الأشرار من على الكرة الأرضية. ان جنونى من النوع المسالم لو جاز مثل هذا التعبير. وكما ترى فالمحور الأساسى لكتابى هو أن المجانين لا يعانون من الجنون إطلاقاﹰ وإن كانت كثرة كلامهم، او قلته، فد تجعلهم يفقدون الصلة بعالم العقلاء.

 

دعنى أحرك مقعدى فقد بدأ الظل ينحسر عن ناحيتى بصورة تذكرنى بالإضمحلال المطرد للجنيه السودانى. لماذا يضمحل الجنيه السودانى؟ يا إلهى يبدو أنك فعلاﹰ غريب فى هذه الديار. ألم تسمع بالقصة المشهورة “لفتوة” السوق؟ القصة كما يرويها البعض هى أن “الين” اليابانى و”المارك” الالمانى و”الجنيه” الإسترلينى و”الفرنك” الفرنسى قرروا تشكيل عصبة للحد من هيمنة “الدولار” الامريكى وفعلا تمكنوا من الإنفراد به فى السوق واذاقوه علقة إستحقها بجدارة. وقام “الدولار” ينفض التراب من أطرافه وهو يستشيط غضباﹰ وبدأ يتجول باحثاﹰ عن من يستطيع أن ينفث فيه غيظه المكبوت. وفجأة ظهر فى مدخل السوق “الجنيه” السودانى يجرجر رجليه غير المتوازنتين والمثقلتين بالديون ويتوكأ على عصاه المعوجة وهو يتمتم بعبارات مبهمة طالبا من عباد الله أن يعطوه مما أعطاهم الله. وفى لمحة بصر كان “الدولار” الجبار قد انقض على “الجنيه” المسكين وأوسعه ضرباﹰ مبرحاﹰ خفض من وزنه الصحى بنسبة أختلف حولها الاطباء. وعندها شعر “الدولار” بالارتياح فعدالة السوق قد أخذت مجراها المالى والمستضعفون لن يرثوا الأرض أبداﹰ. والقوة برهنت على أنها دائما على “يمين” الحق والحق “اليمينى” أكد انحيازه المطلق للقوة. وهى كما ترى قصة ذات معان متعددة ومتشابكة ولكن الاصل يصلح دراما سينمائية يقوم رئيسكم “رونى” بتمثيل الدور البطولى فيها وينافس بها على جائزة “الاوسكار”.

 

أما “جنيهنا” المسكين المهضوم الحق أبدا والمضروب على قفاه دائما فقد انزوى يلعق جراحه المثخنة ويشكو ظلم العملات الصعبة لشقيقاتها المستهونة. ولعل تجربة علقاته المتكررة على يد “الدولار” قد جعلته مصاباﹰ بعقدة الخوف و”البارانويا”، فالمسكين لا يجرؤ الآن على دخول الاسواق، محلية كانت أم أجنبية، إلا فى أعداد متضخمة. وحتى فى مثل هذه الحالات تجده يتلفت وجلاﹰ ويرتعد هلعاﹰ ويتزايد صعود نبضه مع هبوط قلبه الى أخمص قدميه كلما رأى لون “الدولار” الأخضر.

 

هل زرت أحد أسواقنا المحلية؟ ألم تفعل ذلك بعد؟ انى أنصحك أن تفعل فستجد نوعاﹰ وألواناﹰ من الأسواق بدءاﹰ بالأسود ومرورا عبر الدرجات المتفواتة للسواد وصولاﹰ لسوق العملة وسوق الشماسة وسوق اليورانيم المشع وغير المشع وهلمجرا. ويجب الا تفوتك زيارة مؤسساتنا الاقتصادية لترى بنفسك الطفرة الكبرى لبيوتنا المالية. فقد يكون نظامكم الرأسمالى متطوراﹰ ولكن لا يوجد ما يمكن مقارنته بما تفتقت عنه عبقريتنا المصرفية. فلدينا مثلاﹰ من المصارف “الفيرست سليستيال” (First Celestial) والناشونال فندامنتالست (National Fundamentalist) وسيدى بانك (Siddi Bank) والشيستمان هيفين ( Chaste Man Haven) والتشكيلة الملونة من مؤسساتنا الاقتصادية وأسواقنا المالية تؤكد أننا لسنا مجانين فقط وانما نعانى أيضا من عمى الألوان لحسن الحظ أو لسوئه وفقا للمضمون الربوى “للمضاربة” المربحة او “العائد التعويضى”!

 

هل تنوى الإقامة فترة طويلة فى بلادنا؟ إنه بلد مثير للدهشة اليس كذلك؟ تقول أنك تجده “ملفتاﹰ للنظر”؟ أتفق معك وان كان هذا الوصف مثيراﹰ للجدل. فالمظاهر يا صاحبى قد تكون مؤشراﹰ لأمر ما وقد لا تكون. ولكنى أفهم جيداﹰ ما تعنى عندما تقول انه “ملفت للنظر”. ولعله إكتسب هذا الوصف منذ أن خلقه رب العباد. ولعلك تعرف أن هناك مٙثلْ يقول أن السماء قد ضحكت عندما خُلقت بلادنا.وهنلك مثل آخر أنها قد بكت. وفى غالب الأمر أن تكون قد ضحكت وبكت ولكن من الصعب تحديد ان كان الضحك قد سبق البكاء أم العكس! اليس هذا البلد تعيس حقاﹰ؟ أنظر فقط لما يفعله ساستنا وسيتمزق قلبك أسى وحسرة من المضحك المبكى!

 

أجل أتفق معك أن لله حكمة يقصر عنها إدراكنا. وهذا يذكرنى بقصة الرجل الذى وجد نفسه يصارع الأمواج فى البحر فقد خف قارب من خفر السواحل لإنقاذه ولكنه صرف القارب قائلاﹰ: “إن الله سينقذنى”. وأتت بعد ذلك طائرة عمودية لإنتشاله ولكنه طلب منها الإبتعاد صائحاﹰ: “ان الله سينقذنى”. ثم أن الرجل مات غرقاﹰ ورحل الى الدار الآخرة وهنك وفى حسرته على فنائه المُبكر صاح صيحة من لا يمكن مؤاساته: “رباه لماذا تخلبت عنى؟”. وهنا دوى صوت مجلجل فى أرجاء السموات: “أيها الرجل لقد أرسلنا لك قارباﹰ وطائرة عمودية .. فماذا كنت تريد أكثر من ذلك؟”

 

هل سمعت هذه القصة من قبل؟ ماذا؟ تريد منى أن أعود لموضوع “المجانين”؟ تذرع بالصبر معى، فحقيقة لو تمعنت فيما حكيته لك لوجدت أنه لا يخرج كثيراﹰ عن موضوع المجانين فهناك بعض أوجه الشبه والمقارنة فى سلوك شعبنا وهو أمر لا يخرج عن منطق الترابط الكونى للأشياء وان بدا لنا متباينا فى ظاهره. وكما يتفق الكثيرون فنحن حقا شعب أصيل ولكننا فى نفس الوقت شعب مغلوب على على أمره. فلنا أشياء نؤمن بها ولكن منهجنا للوصول اليها يهزم غاياتنا وخياراتنا دائما تأخذنا الى الطرق المخالفة لمقاصدنا. فلنا مثلا هذا الوله الشديد بالديمقراطية ولكننا عندما نحاول أن نجسدها نصاب فوراﹰ بخيبة الامل. وقد يكون واقع أمرنا أشبه بالوقوع فى حب امراة فاتنة تتملكنا الرغبة الجامحة فى الزواج منها والعيش معها فى سعادة ونعيم، ولكن لا تكاد أن تنتهى مراسم الزواج حتى يتغير مذاق الرومانس ويصبح طعمه مرا فى حلوقنا. نحن يا صاحبى نقتل الفرحة بايدينا. أنها مثل الرغبة فى الفناء فلنا هذا الشعور الذى لا نستطيع مقاومته فى تحطيم أعز ما نملك وما نريد.

 

خبرنى يا صاحبى: هل كتب علينا أن نرى حلمنا الجميل يتحول الى كابوس مرعب؟ وهل سنصحو ذات صباح فاحم السواد لنجد الفارس المغوار ممتطيا صهوة دبابته معلناﹰ علينا فى بيانه الأول انه أتى لانقاذنا من حبنا المستحيل؟ وهل سنصرخ حينئذ فى حسرة من لا يمكن مؤاسته: “ايتها السيدة الجميلة، لماذا تخليت عنا؟”…أرى فى نظرتك أنك تشك فى فى أن مثل هذا سيحدث..ولكن الشك هو مصيبتنا الكبرى. فنحن نشك فى مقدرتنا على الحب فنخنقه بايدينا ولكى نكف عن الشكوك نجد اننا يجب أن نضع حداﹰ لأحلامنا. ان مجتمعنا يبدو وكأنه خلق خصيصا لهذا النوع من التصفية الاقصايئة يميناﹰ ويساراﹰ شمالاﹰ وجنوباﹰ..لا أدرى يا صاحبى لملذا يذكرنى هذا ب”كامو” والشعور بلامقولية الاشياء وكأنه كتب علينا ان نؤدى دوراﹰ تراجيدياﹰ مثل “سيسيفس” مأساتنا الأبدية أن نبذل الجهد والعرق والدموع لندفع الصخرة لقمة الجبل لنراها تتدحرج كل مرة الى القاع.

 

دعنا نرتشف قدحاﹰ آخر من الشاى، فليس فى كل يوم يأتى لزيارتى شخص يتناول الشاى من غير سكر! أرى أنك تبتسم. انك لا شك شخص مهذب، فأنت لا ترى أو لا تظهر حرجاﹰ من بعض تعليقاتى الساخرة.

 

أجل، ان الشمس تميل للغروب. أليس المنظر خلاباﹰ وساحراﹰ؟ عادة تهب نسمات الهواء العليل فى ذات الوقت الذى تتأهب فيه فلول ضوء الشمس للتقهقر أمام جحافل الظلام وكأن الليل يحتفل بانتصار ما. وأنا أسالك أى نوع من الانتصار هذا؟ فالوضع سيتغير والأدولار ستتبدل عند بزوغ الفجر. وكما عسعس الليل فالصبح أيضاﹰ سيتنفس والشمس ستشرق أيضا…ولعل هذا من دروس الطبيعة لا يستطيع ساستنا إستيعابه فالذين فى السلطة فى حالة احتفال دائم فى حين ان إنجازهم الفريد هو مقدرتهم على التشبث بالسلطة رغم سجلهم الخاوى. والذين خارج السلطة ليسوا أحسن حالا فالمتطرفون منهم يعدوننا أو يتوعدوننا باحلال مملكة السماء على الأرض متناسين أن تصورهم للسماء لا يشاركهم فيه الكثيرون. ثم ان للسماء طعماﹰ خاصاﹰ كالسكر كل حسب مذاقه وقد تزداد لذة طعمه اذا جاء بعد حرمان كما ستكتشف بالتأكيد عندما تتناول بنفسك كوب الشاى السماوى فى يوم الحساب.

 

ولكن دعنا نكن منصفين لمجانينا فهم ليسوا فصيلة معزولة أو مهددة بالإنقراض فلهم أمثالهم فى كل زمان ومكان حتى فى بلادكم يا صاحبى لو سمحت لى أن أتطاول قليلاﹰ. قد تصاب بالدهشة لو علمت عدد المجانين الذين احتلوا “البيت الأبيض” من وقت لآخر. خذ مثلا رئيسكم الذى كان يعتبر مثالاﹰ غير متحرك للخمول والجمود. يروى أنه ذات مرة أتته سيدة خلال احتفال فى “البيت الأبيض” وقالت له بكل احترام: “سيدى الرئيس لقد راهنت صديقاتى بأننى ساجعلك تتفوه بأكثر من “كلمتين”. نظر الرجل اليها ملياﹰ وقال وهو يشيح بوجهه: “خسرتِ”!!

 

ماذا؟ هل انا متأكد انه كان أحد رؤسائكم؟ بالطبع أنا متأكد. ماذا دهاكم؟ الا تعرفون مجانينكم؟ هل أدركت من أعنى؟ أراك تهز رأسك بطريقة توحى أنك تذكرت الآن اسم رئيسكم الذى أعنى ولكن أرجوك الا تخبرنى به فقد بذلت مجهوداﹰ مضنياﹰ من اجل نسيانه. ولكنى لا أنسى ان هذا الرجل الذى عاش حياته كميت حى دخل دنيا الخلود يوم مماته! تسألنى كيف حصل هذا الحدث الفريد؟ الأمر حقيقة فى غاية البساطة، فعندما بلغ اسرته خبر وفاته صاحت زوجته متعجبة: “وكيف لهم أن يتأكدوا من ذلك؟!”

 

أرى أن الظلام قد ألقى بسدوله حولنا. أتريد أن نتابع جلستنا فى الداخل؟ دعنى إذن أتقدمك. عم كنت أتحدث؟ أجل المجانين فى كل مكان. تخيل مثلاﹰ أن سيدة ذهبت لرئيس وزرائنا وأخبرته أنها راهنت صديقاتها بأنه سيلقى عليها حديثاﹰ لا يزيد عن كلمتين. بالتأكيد سيتحدث رئيس الوزراء فى مونولوج طويل لعدة ساعات، وغالباﹰ ما يكون منطلق حديثه أن “العائد الربوى للرهان” فى حد ذاته قد يتعارض أو لا يتعارض مع الشريعة الاسلامية! ستخسر السيدة الرهان وكأنه قيل لها فى كلمة واحدة “خسرتِ”. والآن خبرنى يا صاحبى، ما هو الفرق؟ ففى الحالتين ومع اختلاف الزمان والمكان والشخصيات فقد فُقد رهان ولم يكسب احد شيئاﹰ. والمحصلة فى نهاية المطاف واحدة: قلة الكلام أو كثرته لا تعنى شيئاﹰ فهناك دوما الخاسر الدائم. أليس هذا فعلاﹰ عالم مجنون حقا؟

 

تستطيع أن تدرك ذلك، أليس كذلك؟ دعنى أشرح الأمر بطريقة آخرى. هب انهم أخبروك ان الطاغية المخلوع حى يرزق ويعيش فى ترف وأمان فى القاهرة. انك لن تكون صحفياﹰ فطناﹰ ان لم تسأل متعجباﹰ: “وكيف لهم أن يتأكدوا من ذلك؟”! اجل كيف لنا أن نتأكد حقيقة من ذلك؟ فقد يكون الطاغية لا يزال يحكمنا تحت اسم مستعار وقد يكون قابعاﹰ فى وسطنا ملتحفاﹰ عباءة السدانة ليتأمر ويخطط ويتحين الفرص..لا، لا تهز رأسك متشككاﹰ يا صاحبى فكل شئ ممكن حتى المستحيل! ان مجرد الحديث عن “آثار مايو” يجعلنا نتذكر تحذير عراف روما لقيصر من “ليلة النصف من مارس”..أرث “الامامة” المزعومة لا زال معنا يتابعنا كظلنا ويزل خطانا شامتاﹰ فينا ساخراﹰ منا وكأنه يود ان يذكرنا انه لو كان الأمر مجرد جنون فالإمام المعتوه ليس أكثر جنوناﹰ من غيره. وصدقنى ان ممارسات المجانين فى وسطنا، علموا بذلك أم لم يعلموا، قد جعلت مثل هذا الادعاء الاجوف لا يخلو من بعض المصداقية.

 

وهذا يعود بى لبداية حديثى وللمحور الرئيسى لكتابى. أجل، أنت على حق فأنا فعلاﹰ أعنى شعبنا الذى كاد أن يمسه الجنون. أنا أسالك: من منا لا يمتلكه نوع من الجنون فى مثل هذه الظروف؟ قبل فترة مثلاﹰ تم وضع استاذ جامعى تحت الاعتقال التحفظى لانه فى ندوة عامة وصف رئيس الوزراء بأنه “كاذب”. وان كنت لا تعرف فالاعتقال التحفظى هو الإجراء الذى يتبعه رجال الأمن لحماية المتهم من أن يشنقه الغوغاء قبل ان تنزل به نفس العقوبة بالطريقة التى تحددها متطلبات وإجراءات القانون السائد. ولكنى أسالك: اذا كان الكذب فى حد ذاته لا يشكل جريمة فلماذا نعتبر الشخص الذى يصف آخر بالكذب مجرماﹰ؟ فانا لم أتورع عن الكذب طوال هذه المقابلة الصحفية معك ولعلك دونت بعض الحالات التى شطحت فيها كذباﹰ. ولو أنك اتهمتنى بالكذب لوافقتك على ذلك فوراﹰ.

 

ولكن ما أهمية ذلك فى نهاية الأمر؟ ان الكذب ليس فقط من خصائل البشر ولكنه أصبح سلوكاﹰ فى الحياة العامة كما يعرف ذلك رئيس الوزراء.. أخبِرنى هل تقومون فى بلادكم المتحضرة بوضع كل المرشحين لرئاسة الجمهورية فى الإعتقال التحفظى لأنهم رموا بعضهم البعض بالكذب؟ إن الكاذبين الحقيقيين هم الذين لديهم حساسية مفرطة ضد الإتهام بالكذب وهم بذلك، وفى نفس الوقت، أقلنا وأكثرنا تجرداﹰ من الاحساس.

 

بالطبع ستقول اننى عدت للتهكم، اليس كذلك؟ لا؟ أنت ترى اننى احاول فقط أن “اتفلسف”؟ حسناﹰ لن احاول انكار ذلك. ولكن أراك تتأهب للذهاب فهلا مكثت قليلاﹰ؟ معك حق فالوقت فعلاﹰ فد تأخر وقد أكثرت كعادتى فى الثرثرة. ألم أقل لك أننى من زمرة المجانين! ولكنى قد استمتعت بالحديث معك وأتمنى أن يكون حديثى قد أعطاك بعداﹰ عاشراﹰ لتفهم كتابى. ماذا؟ أتعتقد حقا أنه سيكون أكثر الكتب رواجاﹰ هذا العام؟ إنك تخجلنى بثنائك العاطر هذا. أتمنى لك اقامة سعيدة فى بلادنا وعوداﹰ حميداﹰ لبلادك.

 

ولكن قل يا صاحبى هل أنت شخص حقيقى أم أنك من صنع خيالى؟ أرى الدهشة ترتسم على وجهك لسؤالى هذا. أرجوك المعذرة فلم أقصد أن أكون وقحاﹰ. كل ما فى الأمر انه بدأ ينتابنى هذا الشعور المجنون بأننى كنت طوال هذه المقابلة أتحدث الى نفسى!!

 

الأيام ٦ يناير ۱۹۸۸


Back to Top