Mohamed Beshir Hamid

الطابور الخامس

إنتابنى شعور عارم وأنا أتابع شريط الاحداث فى السودان، خاصة منذ تٙفجُر الأوضاع فى هيجليج وأبيى فى صيف ۲۰۱۲، بأن ما أشاهده قد عشته أو رأيته من قبل. تذكرت ’المسيرات المليونية‘خلال الفترة الإنتقالية بمدعاة دعم القوات المسلحة، والحشود والتظاهرات لحاملى المصاحف إستجداءﹰ للعواطف الدينية ولإرهاب وإضعاف حكومة المهدى فى عهد الديموقراطية الثالثة ، ثم تحويل الحرب الأهلية فى الجنوب الى جهاد دينى،مع تخويف وتخوين الخصوم والمعارضين. تذكرت أيضا أنه، تبعا لهذا المنهج، فقد تم اتهامى فى منشورات الجماعة بالشيوعية فى الفترة الانتقالية ثم تم ترفيعى فى صحفهم لعميل بوكالة الاستخبارات الامريكية خلال فترة الديمقراطية الثالثة. ولم أدم طويلا فى تلك المنزلة الرفيعة من العمالة المزدوجة ففى أواخر العهد الديمقراطى قامت صحيفة ’ألوان‘ بتنزيلى، ضمن مجموعة من الزملاء، الى مرتبة ’الطابور الخامس‘ فى الخرطوم للحركة الشعبية لتحرير السودان. كان أحد ردودى على تهجمهم علىﱠ حينذاك هو هذا المقال الذى نشر وقتها بالعربية (صحيفة ’الخرطوم‘) والأنجليزية (سودان تايمز) فى ديسمبر ۱۹۸٧ والذى تمت إعادة نشره فى حريات سودان فى ۱۱ يونيو ۲۰۱۲ مؤازرةً لكل من طُعِن فى وطنيتهم، خاصة بعد أحداث هيجليج الأخيرة.

 

صحيفة حريات ۱۱ يونيو ۲۰۱۲

 

الطابور الخامس

 

لابد أن بعضهم قد خّبـٙر عنى لدّى السلطات فمن غير أن أرتكب أية جريمة وجدت نفسى متهماﹰ بأننى ’طابور خامس‘. وفى البداية لم أعر الأمر أى اهتمام لأننى ببساطة كنت أجهل ماذا يعنى مصطلح ’الطابور الخامس‘ على وجه التحديد وإن ارتبط فى ذهنى باللألعاب الاولمبية لسبب غامض لا أجد له تفسيراﹰ الأن. وقد صرفت الموضوع برمته بحسبان أنه لا يخرج عن نطاق الإرهاب السياسى والتشهير الشخصى الذى أدمنت ممارسته بعض الجماعات والصحف التابعة لها. ثم أنه لم يكن من داعٕ لأن يسبب الإتهام قلقاﹰ لى فهناك العديد من الشخصيات التى تورطت فعلياﹰ فى أعمال غير قانونية خلال حقبة السلطنة المايوية فأبدعوا كمستشارين فى صياغة التشريعات ’البيعية‘ وتجلت عبقريتهم كاقتصاديين فى المضاربات ’التعاملية‘. لم يحدث لأحد منهم أى مكروه بل أنهم بعد إنقراض عهد الإمامة تصدوا للعمل السياسى ثم تصدروه. لماذا إذن اقلق لمجرد أن بعضهم قد قرر إتهامى بأننى ’طابور خامس‘؟ ومما زاد من إطمئنانى إقتناعى التام أن الجماعة التى خّبَرت عنى تدعى زورﴽ إحتكار الوطنية، الدنيوية منها والدينية، و تتعامل مع كل شخص يخالفها الرﺃى على أنه مارق وملحد وعميل وطابور خامس الى آخر المصطلحات التى أدخلوها فى قاموس السياسة السودانية. كنت على يقين أن أحدﴽ لن يصدق إتهاماتهم المفترية خصوصاﹰ إﺫا نظر المرء الى سِجل ماضيهم السياسى الُمعِيب.

 

ولكن يبدو أننى فى هذا الشأن قد أخطأت التقدير فلم أكن أدرى أنهم طورا لحد الإتقان النظرية الهتلربة التى تقول أنك إذا رددت الكذبة مرارﴽ وتكراراﹰ فسيصدقها الناس فى آخر الأمر. وبالتالى فإن قناعاتى الساذجة بحقيقة براءتى سرعان ما بدأت تتضاءل بدرجة متوازنة لردود الفعل لإتهامى. اول ما اكتشفت هذه الحقيقة المرة كانت عندما حضر احد اصدقائى المقربين ليعلن أنه يتبرأ من صداقتى و يعلق وهو يهز رأسه بآسى أنه خلال الحرب الأهلية الأسبانية كان يتم إعدام المنتمين للطابور الخامس رمياﹰ بالرصاص. والحقيقة أننى لم افهم وجه المقارنة بين الإتهام الموجه لى والممارسات التى تمت خلال الحرب الأهلية بأسبانيا فى الثلاثينات، فأنا لم احارب فى صفوف الجمهوريين (الاسبان وليس السودانيين) وقطعاﹰ لم تكن لى صلة بجماعة الفاشية (الاسبانية أو السودانية). ثم أن ربط إتهامى بما حدث فى الثلاثينات لا معنى له فوقتئذ لم أكن حتى مجرد خاطر فى ذهن والدﱠى.

 

ثم بدأت الاحظ أن الناس فى الطرقات ينظرون لى شذرﴽ وسمعت عدة مرات من يتحدث هامساﹰ ”ده طابور خامس“ واسترعى انتباهى أن الكل بدأ يتجنبنى ولاحظت أيضا أن الكثير من معارفى قد توقفوا عن مبادلتى التحية والسلام. وقد تعقد موقفى بالذات داخل محيط العائلة فوالدى بدأ يتحدث عن العار الذى وصمت به اسم الاسرة ويردد أنه سيطلب فى صلواته من الله تعالى أن يخرجنى من زمرة ’الطابور‘. اما أخى الاصغر، وهو ضابط عسكرى، فقد بدأ يتحدث فى إبهام وضيق عن وجيعة ﹸالطعنة من الخلف‘ وأقسم امامى بعدم الوقوف معى فى صف واحد مستقبلاﹰ مما فهمت منه – خطأﹰ كما تبين لى لاحقاﹰ- انه يقصد عدم مشاركتى السهر فى طابور البنزين. اما أخى الاكبر فبحكم أنه رجل أعمال وبالتى فهو واقعى التفكير فقد نصحنى بإعلان التوبة النصوح بعد أن اعترف بجريمتى بشكل درامى فى صور متعددة و’الوان‘ مختلفة فى وسائل الإعلام واعلن عن استعدادى لرفع ’الراية‘ مستسلماﹰ و التقدم الى الخلف متى ما طُلب منى ﺫلك. وأضاف شقيقى بتهكمه المعهود أن مثل هﺫا الاعتراف سيكفل لى صكوك العفو والغفران، ومن يدرى فقد تجود الجماعة علىﱠ بعمود ثابت فى إحدى صحفهم ’على مسؤوليتى‘ الخاصة!

 

أما فى منزلى فقد تأزم الموقف لحد كارثى، فزوجتى أصبحت فى حالة إكتئاب دائم ولما سألتها عن السبب إنفجرت صائحة: ”يعنى ما عارف العملتو شنو؟ أنا ما عارفة كيف عشت معاك السنين دى كلها من غير ما اعرفك على حقيقتك يا طابور يا خامس! ايه خلاك تعمل عملتك الشينة دى وتركب معاهم حصان طروادة؟“. ألجمت الدهشة لسان، ماﺫا تعنى بالركوب فى حصان طروادة؟ هى تعرف أننى لا أستطيع حتى إمتطاء الحمير، ثم أننى لا أمتلك حصيناﹰ طروادية كانت أم من نسل آخر. وقبل أن أستفيق من صدمتى دخل الغرفة إبنى الصغير و أخبر امه وهو يبكى أن زملاءه فى المدرسة بدأوا ينعتونه باسم ’ابن الطابور الخامس‘. هرولت خارجاﹰ تطاردنى صيحات زوجتى و إحساس محبط يعتصرنى بأننى لن أعود لمنزلى أبداﹰ.

 

أيقنت أن أبعاداﹰ مأساوية قد خيمت على موقفى، وكل ما زاد تفكيرى فى محنتى تضاعفت حيرتى فى أسبابها. فحتى تلك اللحظة لم يطرح أحد صراحةﹰ السؤال البديهى عن ماهية الجريمة التى أنا متهم بإرتكابها. قررت على الفور أن الأمر يستدعى إستشارة قانونية فتوجهت لمكتب أحد أصدقائى من المحامين والذى إستقبلنى وكأنه لا يعرفنى. سألت المحامى إذا كان إتهامى بأننى طابور خامس سيقود لمحاكمتى، فأكد لى بأن هذا أمر بديهى وعبر عن دهشته لعدم قيام السلطات بإعتقالى بعد، خصوصاﹰ وأن الإدانة فى حالتى تحمل العقوبة القصوى ’لحد الحرابة‘. سألته أن يحدد لى الجريمة التى إرتكبتها فقال أنه لا يعرف أبعاد الجريمة على وجه التحديد ولكن من البديهى أن مجرد إتهامى يعطى معنىً أكبر لجريمتى وبذلك تكتسب العقوبة شرعية أشمل تجعل منى عِبرة لغيرى. فالادانة فى حالتى لن تكون مبنية على صحة الإتهام أو بطلانه ولكنها تعتمد أساساﹰ على موقفى تجاه معتبرات أصولية وبالتالى تصبح لها ضرورة حدية. لم أفهم الكثير مما قاله المحامى ووجدت نفسى أُردد بمرارة كلمات (كافكا) فى قصته (المحاكمة): ”لكن أنا زول برئ والموضوع كله مجرد خطأ فكيف أكون مذنباﹰ فى جريمة لم أرتكبها؟ ياخى نحن كلنا بشر نتساوى فى كل شئ ونشبه بعضنا فى كل حاجة، الحصل لينا شنو؟ هل أصبح الكذب والإفتراء ديدن حياتنا؟“ أجاب المحامى أنه تعلم من خيرته الطويلة أن الذين يدعون البراءة ويرددون أن الأمر برمته مجرد خطأ هم عادة مذنبون حتى النخاع. سألته إن كان يقبل تولى قضيتى فهز رأسه نفياﹰ وقال انه قد دافع فى كثير من الأحيان عن قضايا ميئوس منها ولكن الوضع فى قضيتى مختلف فهو كمحامى له سمعته المهنية والاجتماعية التى يتوجب عليه المحافظة عليها. تركت مكتب المحامى و تجولت فى الطرقات والدنيا تدور بى. جلست على شاطئ النيل وأنا احاول أن الملم أفكارى الشاردة. لم يعد فى ذهنى شك بأننى فعلاﹰ طابور خامس، فإﺫا لم يكن الأمر كذلك فلماذا يهتم أى شخص أو جماعة بإتهامى؟ ولكن السؤال الذى استعصى علىّ فهمه كيف أصبحت طابوراﹰ خامساﹰ من غير أن أدرك ذلك؟

 

بدأت أستعرض شريط حياتى فأكشفت أن تاريخ ميلادى هو الساعة الخامسة من اليوم الخامس من الشهر الخامس وأننى فى احدى شطحاتى طلعت الخامس فى فصلى. واكتشفت أيضا أن عدد أصدقائى لا يزيد عن خمسة وقد توصلت لهذا الرقم بعد أن قمت بعد الاصوات التى حصلت عليها فى إنتخابات دوائر الخريجين (لم أكن وقتها قد وعيت لعبة قومية الترشيح و إقليمية التصويت). كما أن فريق التحرير الذى اشجعه ينهزم دائما بفارق خمسة أهداف. وكلما أمعنت التأمل فى أحداث حياتى ظل الرقم (خمسة) يقفز إلى ذهنى وكأنه عفريت ربط نفسه بى منذ مولدى. وتأكد لى بما لا يدع مجالاﹰ للشك أن علاقتى المريبة بهذا الرقم ترقى لتهمة الشروع فى عمل غير أخلاقى!

 

وبعد ذلك إنصرف ذهنى للتفكير فى علاقتى بكلمة (الطابور). وأعترف أننى إستعنت بالقاموس ووجدت أن كلمة طابور يتوافق معناها مع كلمة ’صف‘ أو ’عمود‘. وأكتشفت أن هنالك صلة حميمة تعود لطابور الصباح فى المدرسة فلم أتغيب عن حضوره إلا مرات قليلة لعلها خمس مرات. وكغالبية الشعب السودانى فقد أصبحت خبيراﹰ فى الوقوف فى الطوابير لشراء ضروريات المعيشة، ولمصادفة، أعرف الأن أنها لم تكن محض صدفة، أكون دائماﹰ (الخامس) فى الصف عندما تنتهى الكميات الموجودة.

 

لم يعد عندى أى شك فى أنى مذنب، فالذين اتهمونى لم يكونوا مخطئين تماما. ومن المفارقات أن التهمة ضدى إتسمت بالعمومية والغموض وفى نفس الوقت تضمنت مغزىً محدداﹰ ومعنىً واضحاﹰ. فأنا مذنب لأننى (طابور خامس) وليس لأى جريمة معينة، فيجب أخذ أفكارى وحياتى ككل لتحديد أبعاد الجرم الذى إقترفته. وبمجرد أن إكتملت قناعتى بأننى مذنب إنتابنى شعور بإرتياح غريب وبرغبة ملحة فى أن يتم تنفيذ العقوبة الحدية فىﱠ بأسرع فرصة ممكنة. ولعل مبعث هذا الشعور أن الطابع المقرف لجريمتى أعطانى نوعاﹰ من التميز الفريد الذى جمع بين النذالة والنبالة فى آن. وكما يبدو ان قناعتى بجسامة جريمتى قد منحتنى نوعاﹰ من الغفران السماوى وأكسبت حياتى معنىﹰ روحياﹰ كانت تفتقده من قبل. فلو كنت جديراﹰ بأن أُتهم بجريمة لم أرتكبها فأنا جدير أيضا بتلقى العقاب االرادع لها. ولا أخفى أننى شعرت بنوع من الفخر فلو لم أكن أعنى شيئاﹰ للجماعة لما اهتمت بإتهامى فى المقام الاول.

 

بدأت بعد ذلك أخبر كل من ألقاه بأننى ’طابور خامس‘ وأن السلطات لها علم بذلك وستقوم بتنفيذ العقوبة الحدية فى القريب العاجل. وأبدى بعضهم تعاطفهم متمنين لى نهاية سريعة ونصحنى أحدهم قائلاﹰ:”يا زول ما تخليهم يلخبطوا قضيتك ذى ما لخبطوا أى حاجة تانية فى البلد“! وظللت أنتظر إعتقالى بفارغ الصبر وامضيت أيامى قابعاﹰ أمام مبنى رئاسة الشرطة لاوفر عليهم مشقة البحث عنى. ولإستيائى الشديد لم يهتم أحد بأمرى وبدأت أتضايق من هذا البطء غير المفهوم فلا يعقل أن تنسى السلطات القيام بإعتقالى حتى ولوتحفظياﹰ، فما الداعى لسن قوانين الطوارئ إذا لم تستعمل فى مثل حالتى؟ قررت أن أضع حداﹰ لهذا التهاون والتسيب فذهبت لمقابلة مدير الشرطة الذى أخبرنى أن قضيتى قد حولت لديوان النائب العام لمتابعة بقية الإجراءت. توجهت فوراﹰ للديوان فقابلنى النائب العام بإبتسامته (الصفراء) المعهودة وأبدى تعاطفاﹰ مع موقفى وأنا أشرح له ضرورة الإسراع بإعتقالى وتقديمى لمحاكمة ميدانية وإصدار الإدانة الحتمية وتنفيذها على الفور. فأخبرنى بانه سيفعل كل ما يستطيعه للإسراع بإجراءت المحاكمة فور ما تنتهى الجمعية التاسيسية من إجازة القوانين البديلة. وأكد لى مُطمئنا أن الإدانة فى حالتى لا تأتى بمفردها ولكن الإتهام فى حد ذاته والإجراءت فى مجموعها تذوب تدريجياﹰ فى الإدانة نفسها وتؤدى بالتالى إلى ترسيخها. وبما أنى لم أفهم الكثير فى تلك المصطلحات القانونية فقد أكدت له مطالبتى بحقى فى الإدانة الفورية وتوعدت أن أقوم بتنفيذ حدودها بنفسى إذا لم أجد إستجابة سريعة من جانبه.

 

وهنا بدأ عليه الإنزعاج وقاطعنى قائلاﹰ بنبرة قلقة أن أى تصرف متسرع من جانبى سيكون محرجاﹰ للغاية للسلطات وسيسبب تعقيدات لا حد لها فى الإجراءت القانونية. واستطرد قائلاﹰ أن القضاة سيجدون أنفسهم فى عطالة مقنعة إذا قام كل متهم بإدانة نفسه وتنفيذ العقوبة ذاتياﹰ، كما أن ذلك من شأنه أن يجعل القوانين البديلة غير ذات موضوع. وترجانى أن أتذرع بالصبر واعداﹰ بأن يولى قضيتى إهتمامه الشخصى، وأشار إلى الملفات الضخمة المبعثرة فى مكتبه وقال لى فى لهجة لا تخلو من الإعتذار والتوسل:”شايف الفايلات دى كلها…والله نحن لغاية حسع ما انتهينا من قضايا ’الطابور الاول‘.“!

 


Back to Top