Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (۸): إبتسامة ما

Al-Rakoba 10 February 2013

إبتسامة ما فى العناية المكثفة

 

 

لكم هزت مشاعرى كلمات الإمام الصادق المهدى عندما قال -لا فض فوه- فى مناسبة أدبية قبل أيام “أن المجتمع السودانى كمن فى العناية المكثفة وأن حاله أشبه بالإنهيار”. ولعل فى تشبيهه هذا الكثير من الصدق –هذا الصادق الصديق- وإن كان إمامته لم يفسر لنا بقليل من التفصيل كيف ولماذا وصل المجتمع السودانى إلى حالة العناية المكثفة هذه ومن المسئول عن انهيار صحته بهذا الشكل ولهذا الحد المريع. وتربطنى بالمجتمع السودانى هذا بالاضافة لأواصر القربى، فأنا منه وإليه، مواقف تاريخية توثقت فيها علاقتنا فى اكتوبر ۱۹٦٤ وأبريل ۱۹۸٥ ولهذا لم يكن من بد أن أقوم على الأقل بواجب الزيارة. ولكم أن تعذرونى إذا اعتقدت أن المسئولين عن هذا المريض قد أودعوه مستشفى يليق بمقامه وتاريخه العريق، فعندما سألت أحدهم عن الطريق إلى (رويال كير) قال لى بعد أن عرف المريض الذى أقصده: “(رويال كير) بتاعة ايه يا عم. ديل جادعنو فى مستشفى الخرطوم”.

 

توجهت إلى هناك وبعد دفع رسوم الزيارة ورسوم المشاهدة (لزوم دخول العناية المكثفة) ورسوم المحادثة (لزوم قولة “لا بأس عليك”) دخلت على المجتمع السودانى ولم أتمالك إلا أن أجهشت بالبكاء الحار على الحالة التى رأيته عليها، فهو ملفوف بالاشرطة الطبية من رأسه إلى أخمص قدميه كالمومياء ولا يبرز من وجهه سوى عينيه وفمه. كما إن إحدى رجليه مبتورة من أعلى الساق والثانية معلقة من سقف الغرفة،. وكمية من أنابيب “الدّربّات” موصلة الى أجزاء مختلفة من جسمه.

 

ويبدو أنه أحس ببكائى ففتح عينيه وقال بصوت ضعيف: “هون عليك يا بنى، أهو حال الدنيا.”

 

فقلت وأنا أغالب دموعى: “لا بأس عليك يا مجتمع يا سودانى. العمل فيك كده منو؟”

 

فقال: “دى قصة طويلة يا ولدى. أنا من يوم ۱ يناير ۱۹٥٦ أصبحت مثل حقل تجارب يأتى كل من هب ودب يجرب فّىّ نظرياته. أول حكومة حلفت بالتلاتة على مجموعة عساكر عشان يتولو أمرى وبعد كم سنة قام الشعب قلعنى منهم لكن ناس “سيدى” و”مولانا” قعدوا يلعبوا بيا  لغاية ما نط عسكرى جاهل قال يحلنى من حكاية الطائفية دى، و قام بى عافيته جرب فوقى كل أنظمة الحكم من أقصى اليسار الى أقصى اليمين وختمها بأن نصب نفسه إماماﹰ تتوجب مبايعته وطلع علينا بقوانين سبتمبر اللى قطعت رقاب وبترت أطراف وراكبة فينا كالخازوق ما قادرين نتخلص منها لحد الآن. ولكن الشعب قام تانى وقلعنى منه وبعدها جوا ناس المماحاكة و”أبوكلام” وسياسات “بإيضاحاتها” لغاية ما نط علينا فى غفلة ما معروف عن إهمال أو تواطؤ جماعة المشروع الحضارى اللى ورونا فلسفة التقدم إلى الخلف وماذا يعنى التمكين وسرقة قوت الملايين. ولم يكتفوا بى ده بل قاموا فى ۱۱ يوليو ۲۰۱۱ بقطع كراعى اليمين وحسع زى الناوين كمان على كراعى الشمال”.

 

وسكت برهة وهو ينظر الى رجله المعلقة قبل أن يستطرد قائلاﹰ: “والغريب إنهم قبل فترة بدأوا يبيعوا فى اجزائى لناس الخليج فباعوا واحدة من الكلى بتاعتى، والأيام دى بتشاورو فى بيع التانية. يعنى مشروعهم الحضارى أذانى أذى بليغ”.

 

قلت وأنا أحاول تغيير دفة الحديث عن هذا الجانب الكئيب : “والدكاترة قالوا ايه؟”

 

فرد بحسرة: “هم خلو فرصة للدكاترة عشان يعالجو زول. ديل حتى العلاج احتكروه لصالحهم وعملوا منه سلعة تجارية وكمان احتكروا الأدوية ويزيدوا فى اسعارها زى ما عايزين. الفضّل فى البلد من الدكاترة اللى ماهاجروا واقفين صفوف أمام سفارات السعودية وليبيا عشان التأشيرة”

 

فسألته: “حاولت موضوع العلاج بره؟”

 

فرد بتهكم لم أعهده فيه: “بره وين و بى كم؟ مصر الايام دى مجتمعها ذاته بقى فى التخارجو. ولكن اولاد بمبة يعجبوك فى مقاومة عمليات التمكين. أتصور ديل اللى كنا بنضحك  عليهم زمان ونقول أنهم “شعب كل حكومة” و”مصر (سوط) السلطة فيها مسموع” طلعوا أجدع مننا.”

 

فقلت وأنا أحاول التخفيف عليه: “ولا يهمك، البركة فى العيال”

 

فرد بلهجة غاضبة: “وهم حتى العيال خلوهم، ديل بوظوا التعليم وخربوا الجامعات الكويسة كلها وعملوا جامعات الكرتون الكتيرة دى من غير تأهيل ولا معدات. وحتى الوظائف استولوا عليها وأولادنا بقوا عاطلين والشغل إلا بالواسطات. شفت انحراف أخلاقى قدر الحاصل الأيام دى. الواحد حتى عيالوا الصغار فى المدرسة ما قادر يأمّن عليهم وكمان شوف الانفجار السكانى فى المايقومة والجماعة إياهم شغالين مثنى وثلاث وبالدفع الرباعى حتى فى نهار رمضان والعياذ بالله”.

 

وأنا على وشك أن أسأله إذا كان يتلقى بعض الزوار للتخفيف عنه رأيت رهطاﹰ من المسئولين وعلى رأسه مساعد الرئيس ووزير الخارجية متجها نحونا ولاحظت أن المريض وهو يراهم قد أغمض عينيه متظاهراﹰ بالنوم أوالموت. وقف وزير الخارجية على رأس السرير وألقى خطبة عصماء عن الانجازات والمكاسب العديدة التى حققها فى القمة الاسلامية مؤخراﹰ واختتم حديثه قائلاﹰ: “وبالمناسبة لاقيت وزير خارجية الصومال ووافق مشكوراﹰ على علاجك فى مستشفى مقديشو الدولى للأمراض المزمنة والمستعصية”. وهنا تدخل وزير مستشارية الإستثمارقائلاﹰ: “ونحن كمان عملنا إستثمارات كتيرة وناجحة للغاية وحنتبرع ليك بتذكرة سفرلمقديشو بالدرجة السياحية لاتجاه واحد”. وهنا التفت سيادته ورآنى فقال لى بحدة: ” انت مش اديناك تذكرة سفر لباماكو فى (مالى) مقابل نصيبك فى السودان؟ جاى هنا تعمل شنو؟”

 

وقبل أن أتمكن من أن أشرح له أن الفرنسيين يقومون هذه الأيام ببعض الإصلاحات لتجميل منتجع (تمبكتو) حيث أقيم، جاء صوت الأمين العام لهيئة علماء السودان وهو يقول: “طبعا زى ما عارف يا مجتمع يا سودانى نحن أخرجنا الجبهة الثورية وقطاع الشمال بتاع ناس ياسر وعقار من ملة الاسلام وكمان كفّرنا كل من وقّع على وثيقة (الفجر الجديد) اللى اتملصوا منها وغير المتملصين. بعد كده حنتشاور مع الدكاترة نشوف كراعك (الشمال) دى نعمل فيها شنو!” وهنا بدأ مساعد الرئيس فى الصياح والزعيق فى لهجة أقرب للوعيد وفى عبارات لم أفهم منها الا كلمتى “المركوب” و”الجزمة” وأغلب الظن أنه كان يحاول أن يوضح أنه ينتعل الاول مع الجلابية والعمة والثانية مع البنطلون والبدلة.

 

حينها قررت التدخل لأن المريض المسكين كان طوال هذه المدة “كاتم نٙفٙسه” وخشيت أن “ينكتم” للأبد فقلت وأنا أتصنع البشاشة: “والله ياجماعة سعيكم مشكور ودمتم دائما (ذخيرة) لهذا الوطن ولا تنسونا فى دعواتكم وفتاويكم”.

 

وبعد فترة فتح المجتمع إحدى عينيه وسأل هامساﹰ: “مشوا ولاّ لسع؟”

 

فأجبته: “ايوه مشو ولكن شايف ناس (قريعتى راحت ) جايين علينا”

 

فسالنى بصوت مرتجف: “وديل يطلعوا مين؟”

 

فقلت: “(سيدى) و(مولانا) و(الشيخ)”

 

وهنا تحول خوفه إلى رعب شديد: “عليك الله ما تخليهم يقربوا منى”.

 

تحركت نحوهم ورجعت إليه بعد فترة وقلت: “خلاص وزعتهم وقلت ليهم لازم يمشوا يشوفوا منتخبنا القومى الراقد فى عنبر الطوارىء”.

 

وبدا لى وأنا أنظر إليه –وقد يكون هذا من محض خيالى- بدا لى أننى أرى طيف ابتسامة ما تتراقص على شفتيه وكأنها تود أن تقول لى أن كل شىء سيكون على ما يرام فى النهاية وأن الليالى بعظائم الامور حبالى.-


 

Back to Top