Mohamed Beshir Hamid

“هواجس ساخرة (٦):”الفجر الجديد

Al-Rakoba 28 January 2013

“الفجر الجديد”

 

 

سألنى صاحبى : “رايك ايه فى الفجر الجديد؟”

 

فأجبت على الفور : “والله غاية الروعة وبفتكر أنها من أحسن أغانى عثمان الشفيع”

 

قال صاحبى بلهجة لا تخلو من الضيق : “ياخى بقصد الفجر الجديد بتاعة كمبالا”

 

فسالت بدهشة : “هى فى واحدة كمان غنتها فى كمبالا؟”

 

فقال صاحبى وقد أرتفع صوته : “يا بنى آدم أنا بقصد الفجر الجديد اللى وصفته  الحكومة بالفجر الكاذب”

 

فقلت وأنا أهز رأسى تحسراﹰ : “والله ناس المصنفات الفنية والغنائية ديل ماعارفين نعمل معاهم شنو؟ يسوطوا ويعسوا فى أغانى الناس زى ما عاوزين!”

 

وهنا نادى صاحبى على إبنى الصغير وقال له : ” تعال يا فالح فهم أبوك الراسو تخين ده الفجر الجديد معناها شنو”

 

فقال ابنى وهو يحاول تحاشى النظر الىّ : “يا بوى أنتا ماسمعت الامين العام بتاع هيئة علماء السودان قال شنو؟ قال أى زول وافق على الفجر الجديد يعتبر كافر”

 

فهتفت صائحا : “أعوذ بالله! كيفن يكفروا عثمان الشفيع!”

 

وهنا استمر ابنى قائلا : “وكمان مساعد الريس وصف ناس الفجر الجديد (بشذاذ الآفاق) وقال (لحس الكوع) أسهل ليهم من إسقاط النظام”

 

فصحت فى ابنى هائجاﹰ :”متين مساعد الريس قال الكلام ده؟ انت يا ولد بتجيب الكلام الفارغ ده من وين؟ انت قاعد تقرا الانتباهة بالدس؟” 

 

فرد وهو يجرى هارباﹰ: “لا والله يا أبوى. ده بدرسوا لينا فى المدرسة”

 

وهنا هدأت ثورتى وبدأت التفكير فى الموضوع من زاوية مختلفة تماماﹰ وبجدية أكثر. فما دام هذا ما يدرسونه لهم فى المدرسة فلا داعى للانزعاج، فمدارسنا والحمد لله تعتبر النموذج الأمثل لكل المدارس فى المنطقة العربية والافريقية هذا إذا لم تكن على مستوى العالم بأسره. ثم إن هيئة علماء السودان لا تقول إلا صدقاﹰ ما دام هؤلاء العلماء الأجلاء لم يقصدوا تكفير عثمان الشفيع.

 

فقد بُح صوتهم، هؤلاء الأجلاء، وهم يدعون للطهارة (و”الطهارة” كمان) وتحريم المعاصى. فأصدروا الفتاوى بإباحة زواج الايثار والمسيار ووجوب ختان البنات وإرضاع الكبير ومفاخذة  الزوجة الطفلة (ولا أحد يدرى ما يدور من عواطف نبيلة فى نفوس هؤلاء ليجعلهم مهوسيين بهذا الشكل بمثل هذه الأمور) و(كمان)عدم ايجار الدور والمنازل لأعضاء الحركة الشعبية (ولا أحد يدرى هل جرى تكفيرهم قبل هذه الدعوة لتشريدهم فى الشوارع). ومشهود لهم -علماؤنا هؤلاء- تصديهم لمحاسبة الدولة فى كل صغيرة وكبيرة حتى وصل الأمر حد تحريم سفر رئيس الجمهورية لخارج البلاد لأن سفره “مفسدة”، ولومهم للحكومة إذا تأخرت فى تمويل نشاطهم للقيام بعملهم فى خدمة الله. ثم أنهم حرموا التعامل بالقروض الربوية إلا فى الضرورات التى تبيح المحظورات مثل القرض الربوى من البنك الصينى والذى يجب تدريسه فى الجامعات كأنجع مثال فى اقتصاديات “فقه الضرورة” المتلازمة معها بالضرورة اجتماعيات “فقه السترة”.

 

ولعل نجاحهم الأكبر تمثل فى حملاتهم لاجتثاث الفساد المستشرى فى البلاد من جذوره مما جعلنا ننافس الدنمارك وفنلندا والسويد فى احتلال مكانة “أقل الدول فساداﹰ في العالم” كما جاء في أحدث مسح عالمي لمستويات الفساد في العالم كشفت عنه المنظمة العالمية للشفافية لعام ۲۰۱۲، رغم ما يشيعه بعض الحاقدين بإدعائهم أننا من بين ۱٧٦ دولة فى العالم طلعنا “تانى الطيش العند الله بعيش” بعد الصومال، أعانها الله وأبقاها دائما لستر عوراتنا ولتخفيف “حرقة الشطة فى حلوقنا” كم يقول صلاح عووضة.

 

لابد لى فى هذا المقام أن أعترف أن ما قاله السيد مساعد الريس، لا فض فوه، قد أصابنى والحق يقال بشىء من خيبة الأمل. فالكلمات المنسوبة اليه من (لحس الكوع) و(شذاذ الآفاق) رغم ما تحمله من بلاغة كلامية وأدبية عالية المستوى الا أنه قد جرى تكرارها مما قد يعرضها لا قدر الله لكل ما يتعرض له التكرارحتى لو تعلم منه الحمار. ثم إنها قد تثير التساؤلات مثلا، عن لماذا يختص (الكوع) وحده بهذا التفرد اللغوى السيادى؟ فبدل (لحس الكوع) كان يمكن لسيادته ذكر أطراف أخرى لا يمكن لحسها أيضا مثل (البوع) ولعل بلاغته اللغوية كانت تبلغ حد الإبداع لو قارنها بأطراف أخرى يمكن لحسها فهى فى هذه الحالة تُنبىء عن حالة يمكن للعامة منا تفهمها وتفسر لنا بوضوح أكثر ما أراد سيادة المساعد ببلاغته العلمية  التعبير عنه.

 

 ثم إن تعبير (شذاذ الآفاق) ترجع ملكيته الفكرية لشخص آخر ولا أحد يدرى إذا كان السيد المساعد قد قام باستشارة هذا الآخر أو الإستئذان منه. (وعلى سيادته إلتزام جانب الحذر فى هذا الشأن فقد يكون الموضوع بالنسبة له مجرد “توارد خواطر” إلا أن السرقة الأدبية فى مثل هذه الظروف قد تكون لها عواقب وخيمة فعليه أن “يبقى عشرة” على “ابو مركوب” من “بغاث الطير” ولكن تلك قصة آخرى).  وعندما أُسُتعمل هذا التعبير لأول مرة كانت له دلالته الأدبية البليغة ووقعه الشديد على مسامع الناس. فكلمة”شذٔاذ” تأتى أصولها من “شذ” “يشذ” فهو “شاذ” وجمعها  “شذاذ” وفى بعض ألسنة العرب “شواذ” ومنها جاءت كلمة “الشذوذ” أو “النشوذ” بمعنى مخالفة الشائع المتعارف عليه وهو ما يمكن أن ينطبق على السواد الأعظم من السودانيين فهم دائما مخالفون ولا يجتمعون على كلمة سواء ولا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب. أما كلمة “الآفاق” فهى جمع أفق وفى قول آخر تعنى الأماكن المفتوحة الى مايمكن أن ينتهى إليه البصر بمعنى الامنتهى وقد فسرها بعض اللغويين بأنها تعنى “الحوامة” بغير هدف أو التقدم الى الخلف خُلقياﹰ وأخلاقياﹰ لما جاء على لسان الأعراب:

 

أرأيت فى الماضى القريب شيخا ﹰغريراﹰ  أرعنا

لا يتّقى شر العيون ولا يخاف الألسنا

 

الإ أن أغلب المؤرخين يرون أن هذا التفسير يفتقد الفذلكة التاريخية فالتورية فى “الماضى القريب” غير مواتية، والأرجح أن “الآفاق” فى هذا السياق الأدبى قُصد منها “كل الأمكنة”. فإذا ربطنا المعنى التعريفى الأول بالمعنى البلاغى الثانى يصبح المعنى الإجمالى هو “السواد الأعظم من الناس فى كل مكان”.

 

ولعل هؤلاء من عناهم السيد الامين العام لهيئة علماء السودان.عندما أخرجهم من ملة الاسلام لمجرد أعجابهم بأغانى عثمان الشفيع.خاصةﹰ فريدته “اليوم سعيد وكأنو عيد…”.

 


www.alrakoba.net 

Back to Top