Mohamed Beshir Hamid

“القطاع الثالث”

الجمعية السودانية لحماية البيئة

المنتدى البيئى

نوفمبر ۲۰۱۲

  

نحو إستراتيجية أشمل للحركة الطلابية فى السودان:

“القطاع الثالث” ومكانية الانتقال إلى الحراك الاجتماعى

 

محمد بشير حامد

رئبس شعبة العلوم السياسية بجامعة الخرطوم سابقاﹰ

 

 

مقدمة

 

هذه الورقة امتداد لبحث باللغة الإنجليزية بعنوان: 

“تصاعد و انحسار الحراك السياسى الطلابى فى السودان”

(The Rise and Decline of Student Political Activism in the Sudan)

 

  

قدمته فى مؤتمر:

National Conference on Fostering Political Participation of University Students in Development

والذى نظمه مركز السودان للبحوث التربوية بدعم من الاتحاد اللأوربى فى ديسمبر ۲۰۰۹.

 

 

وركز المحور الأساس للبحث على المراحل التاريخية التى مرت بها حركة الطلاب السودانية بٙدأﹰ بمناهضة الاستعمار منذ أربعينات القرن الماضى مروراﹰ بعصرها الذهبى الذى توجته بقيادة ثورة اكتوبر ۱۹٦٤ ثم بداية الانحدار ببروز ظاهرة العنف وسط الطلاب وتزايد وتيرة القمع الأمنى إلى أن جاءت الطامة الكبرى فى شكل “ثورة التعليم العالى” فى عام ۱۹۹۰ لتضع الحراك  السياسى للطلاب فى محنة لم يقم من عٙثرتها حتى الآن ليس الحراك السياسى الطلابى فحسب بل مستوى التعليم فى كل مراحله على مستوى القطربأجمعه.

 

إن أهم الانتقادات التى وجهت لثورة التعليم العالى أنها أخفقت فى توفير الإمكانات المادية والبشرية لمقابلة الزيادات التى طرأت فى التوسع الهائل لمؤسسات التعليم العالى وفى أعداد الطلاب المقبولين فى هذه المؤسسات. وهذه الانتقادات رغم وجاهتها فإنها تفترض أن تلك السياسات تستهدفإصلاح (reform)  التعليم العالى فى حين استخلصتُ فى تحليلى إلى أنها ترمى الى تشويه (deform) التعليم العالى بإخضاعه لأهداف واستراتيجيات سياسية محددة سلفاﹰ لعل من أهمها احتواء أو تحجيم النشاط الطلابى السياسى وفرض نظام من القيم التى تنحو تجاه مصادرة حرية الفكر وتشجيع التبعية العقائدية وكبت المبادرات الفردية. وقد استبان هذا فى التدنى المضطرد لنوعية ومستوى التعليم فى مؤسسات التعليم العالى وفى المدارس أيضاﹰ.

 

إن انحسار النشاط السياسى للطلاب يضع الحركة الطلابية أمام معضلة و تحدى، ولعل الحل لهذه المعضلة يكمن فى توجه النشاط السياسى (political activism) نحو الحراك الاجتماعى (social activism) الذى يدور داخل المجتمع المدنى بل هو جزء لا يتجزأ منه. وهذا التوجه غاية فى حد ذاته ووسيلة فى آن لتفعيل حراك سياسى تسنده وتشد من أزره قطاعات مجتمعية قد يلعب الحراك الإجتماعى دوراﹰ أساسياﹰ فى كسب تعاطفها ومسنادتها. ولعل تعبير “القطاع الثالث” (The Third Sector)، الذى ظهر فى أدبيات المجتمع المدنى حديثاﹰنسبياﹰ، هو الأبلغ فى وصف الإطار الذى تموج داخله الأنشطة المتنوعة للمجتمع المدنى بكل أطيافها ومكوناتها وتخصصاتها وتوجهاتها.

 

إن المحور الرئيس لهذه الورقة ذو شقين: الأول يتعلق بالمكون المجتمعى بمعنى دراسة إمكانية النقلة من دور الطلاب السياسى إلى الحراك الإجتماعى وجاهزية القطاع الثالث، (بالمعنى الأكثر شمولاﹰ للمجتمع المدنى)، للمساعدة فى دعم مثل هذا التوجه. هذا قد يثير العديد من الأسئلة: هل هناك أصلاﹰ إمكانية لمثل هذه النقلة أم هى مجرد تصورنظرى قد يصعب أو يستحيل ترجمته على أرض الواقع؟ ما هى القوى المتداخلة فى القطاع الثالث التى قد تساعد فى تفعيل الحراك الطلابى؟ ما هو الدور الذى تؤديه المنظمات الطوعية فى إستيعاب  الطلاب والشباب الناشطين فى المجال الاجتماعى وما يمكن أن يؤديه مستقبلاﹰ بفعالية أكثر؟ ما هى الإيجابيات التى يمكن دعمها والسلبيات التى يتوجب تفاديها؟ ولعل النظرفى تجربة الجمعية السودانية لحماية البيئة كرافد من روافد القطاع الثالث قد يفيد فى الإجابة عن بعض هذه التساؤلات.

 

والشق الثانى يتعلق بالمكون التعليمى، فالنقلة من الحراك السياسى إلى الإجتماعى لا يمكن أن تتم فى غياب الثقافة التعليمية اللازمة. وفى الوقت الراهن فإن القليل من مؤسسات التعليم العالى تُعنٙى بتعليم التواصل مع المجتمع المحلى (community outreach). وتعتبر جامعة الأحفاد للبنات رائدة فى هذا المجال فالنظر فى تجربتها فى التواصل المجتمعى، بإيجابياتها وسلبياتها، قد يساعدنا ليس فقط فى فهم هذا المكون التعليمى الهام بل فى إمكانية الإحتذاء ببعض جوانب التجربة عند التفكيرمستقبلاﹰ فى إصلاح ما تم إفساده فى مؤسسات التعليم العالى. كما أن هنالك نماذج للتواصل المجتمعى أكثرتطوراﹰ فى بعض الجامعات الأمريكية يمكن الإستفادة منها أيضاﹰ. وفى نفس الوقت فإن تجربة جامعة الاحفاد قد تثير بعض الأسئلة: هل هناك دراسات عن أثر التواصل الريفى لبرامج جامعة الاحفاد فى المجتمعات المحلية وما هى حصيلة الجامعة عند النظر إلى نتائجها على المستوى المحلى؟ هل أدت برامج التواصل المجتمى إلى حراك اجتماعى فى الريف وهل تمت متابعة و تقييم آثاره ونتائجه ميدانياﹰ ودراسياﹰ؟

 

 

القطاع الثالث ومجالات الحراك الإجتماعى

 

إن المجتمع المدنى والأُنظومات غير الحكومية (NGOs) أصبحت تعتبر فى مجملها، وبصورة متزايدة ، المكون الأساس لما سمى بالقطاع الثالث (ولعل هذه التسمية تشبه إلى حد كبيروصف الاعلام والصحافة بأنها تمثل “السلطة الرابعة” فى المجتمعات الديموقراطية). إن القطاع الثالث له أبعاد أفقية ورأسية فى علاقاته مع القطاعات الأخرى وفى وضعه بينها. فرأسياﹰ يحتل القطاع الثالث موضعاﹰ بين المجتمع الطبيعى (natural society) وهو الأسرة والمجتمع السياسى وهو الدولة، ومهمة المنظمات الطوعية التى تعمل فى هذا المجال هى بالضرورة حماية المجتمع الطبيعى (الأسرة بمفهومها المجتمعى العام) من تغول أو تجاهل أو تقاعس المجتمع السياسى أى سلطة الدولة. أما أفقياﹰ فإن القطاع الثالث يشغل المساحة بين القطاع العام والقطاع الخاص ورغم أن الحدود الفاصلة بين مختلف القطاعات غالباﹰ ما تكون مبهمة وغير واضحة المعالم فإن ثمة مساحات رمادية متنقلة بين القطاعات قد تتسم بدرجات متفاوته من التعاون أوالتعارض، من الثقة أوالشك المتبادل، ومن تطابق المصالح أو تباعدها. إن دور القطاع الثالث هو العمل على توفيرالخدمات وخيارات الترقية الذاتية بما يخفف من تقاعس القطاع العام فى هذه المجالات ومن قصور القطاع الخاص الذى قد يحركه عامل الربح أكثر من المنفعة العامة.

 

هذا هومجال القطاع الثالث الذى يوفر البيئة الصالحة للحراك الاجتماعى للطلاب. ويمكن تعريف الحراك (activism) فى مضمونه الواسع بأنه العمل الهادف لإحداث تغييراجتماعى أو سياسى أو اقتصادى أو بيئى، من أجل مسنادة أو معارضة أحد طرفى قضية خلافية. وأحياناﹰ يستعمل تعبير الحراك السياسى للطلاب كمرادف لتعبير المشاركة السياسية ويستعاض عنه بتعبير الحراك الاحتجاجى (protest activism) ولكن هذا التعريف قد ينطبق على بعض جوانب الحراك وليس بالضرورة عليها كلها۱

 

إن عدداﹰ مقدراﹰ من الفاعلين فى منظمات المجتمع المدنى (الموالى منها للنظام والمستقل) يحتلون هذا الفضاء المجتمعى المحلى حالياﹰ. كذلك فإن ضروباﹰ من الحراك الطلابى كشكل من أشكال أنشطة المجتمع المدنى (التى غالباﹰ ما يُعٙبْر عنها من خلال المنظمات الطوعية) قد وجدت طريقها إليه. ولكن التحدى يكمن فى كيفية تنظيم هذا الجهد المنعزل نسبياﹰ فى حراك اجتماعى جماعى مستقل ذى  قاعدة عريضة من الطلاب والشباب (من ذلك النوع الذى ألهم النشاط الطلابى السياسى فى الماضى) ولأجل إيجاد حضور فاعل ودائم فى إطار هذا القطاع الثالث.  فما هى الدروس المستفاده من تجارب تفاعل الحراك الطلابى والشبابى مع هذه المنظمات من أجل تطويره وترسيخه؟

 

هنالك فرضية فى علم السياسة تقول إن كل السياسة محلية المصدر (“all politics are local”) بمعنى أن ألهم ألاساس لكل سياسي فى المجتمعات الديمقراطية أن يتعرف على احتياجات وتطلعات الناخبين فى دائرته الانتخابية ويتجاوب معها. ولحد ما ينطبق نفس الشىء على الديكتاتوريات العسكرية والأنظمة الشمولية سواء أكانت الدائرة (غير الانتخابية) التى تساندهم هى المؤسسة العسكرية أو الحزب الواحد الحاكم.

 

للطلاب دائرتهم الصغرى المتمثلة فى اتحاداتهم و جمعياتهم وروابطهم السياسية والقبلية ولكنهم أيضا أعضاء فى الدائرة الأكبرللمجتمع المدنى بكل أطيافه وتوجهاته. إن انحسار الدائرة الجامعية ممثلة فى اتحادات الطلاب، ومعوقات العمل السياسى فى الحرم الجامعى (campus politics) يضع الحركة الطلابية أمام محنة وتحدى.  المحنة الراهنة تتمثل فى أنه فى الوقت الذى تم فيه ترويض أو الغاء اتحادات الطلاب أصبح النشاط السياسى فى الجامعات، حتى فى الحالات التى يتم فيها تفعيله، عاجزاﹰ أو قاصراﹰ عن تلبية رغبات الطلاب وتطلعاتهم واهتماماتهم. وأصبحت الحركة الطلابية المشرذمة والمعطوبة تواجه خيارات قليلة لعل أكثرها تطرفا هو الاتجاه للعنف كمتنفّس للاحباط من ناحية، أو الغوص أكثر فى مستنقع اللامبالاة والاحباط من ناحية أخرى.

 

ولكن إذا كانت “كل السياسة محلية المصدر” فذلك ينطبق أيضاﹰ على النشاطات المجتمعية والخدمات الاجتماعية التى هى حقيقةﹰ المحور الذى تدور حوله اهتمامات أى دائرة سياسية. فالتحدى إذن هو كيفية تنشيط الحراك الطلابى بتوجيهه محلياﹰ إلى جذور الدائرة الكبرى للمجتمع المدنى والتى هى تحديداﹰ المكون الأساس للحراك الاجتماعى. إن ارتباط الطلاب بمجتمعاتهم المحلية لا يعنى إعادة تعريف دور الحراك الطلابى بقدر ما يعنى تحويل مساره نحو ما يمكن أن نسميه المرجع النهائى لكل السياسات، كما لا يعنى جعل المجتمع المحلى هو الدائرة الانتخابية للطلاب بقدر ما يعنى جعل الطلاب أعضاءً مؤسسين للحراك الاجتماعى فى مجتمعاتهم المحلية. إن التغيير يأتى من العمل الجماعى فى جذور المجتمع والتغيير الاجتماعى يعتمد كلية على مقدرة الناشطين كأفراد فى الانتظام كمجموعة والتنظيم كجماعة.  

 

إذن فالتوجه نحو الحراك الاجتماعى لا يعنى بالضرورة عدم الاهتمام أو تجاهل الارتباط بالقضايا السياسية فهناك ارتباط عضوى بين الحراك السياسى والاجتماعى فهما وجهان لعملة واحدة. وحقيقة فإن الحراك الاجتماعى داخل القطاع الثالث فى جوهره وأساسه عمل سياسى. “إن منظمات المجتمع المدنى هى فى جانب أساسى من جوانبها تعتبر جماعات مصالح (interest groups) تنمو وتدافع عن هذه المصالح فى مواجهة المنافسين والخصوم من جماعات المجتمع المدنى الأخرى، وعلى مواجهة الدولة أيضا…وبهذا المعنى فإنها جزء لا يتجزأ من النظام الديمقراطى العام إن وجد فعلا، وجزء لايتجزأ من الشروط اللازمة لوجود هذا النظام وصلاحه، أو التمهيد لنشأته إن لم يكن موجودا بالفعل”۲.

 

إن المشاركة فى الأنشطة المحلية تهدف إلى بناء المعارضة ليس فقط بمعنى الاحتجاج والمواجهه ولكن أيضاﹰ بمعنى خلق فرص ديمقراطية يتمكن الناس من خلالها التعرف على قوتهم الجماعية وبناء التضامن الاجتماعى. “ففى أنشطة المجتمع المحلى توجد العديد من الممارسات التى قد لا تبدو معارِضة مباشرة للسلطة ولكنها تثير تساؤلات عن علاقات القوة فى المجتمع أو تقدم رؤى بديلة لنقل سلطات لقطاعات لا تمتلكها. بمعنى اّخر، العمل فى قطاع المجتمع المحلى يتيح فرصاﹰ سياسية تؤدى إلى بروز ديمقراطية المشاركة المباشرة (direct participatory democracy) التى من خلالها يمكن للعمل الجماعى أن يمارس ضغوطاﹰ للاستجابة لمطالبه من المستويات المختلفة للسلطة”۳.

 

ولكن دور القطاع الثالث يتجاوز إمكانية التحول الديموقراطى ليمتد للتنمية الاقتصادية. يقول أحد علماء الاجتماع “أن معدلات التنمية الاقتصادية قد ارتبطت ارتباطاﹰ وثيقاﹰ برأس المال الاجتماعى (social capital) أى بقوة المجتمع المدنى.  فمنظمات المجتمع المدنى تمنح أعضاءها مجموعة كبيرة من المهارات، وشبكة واسعة من الاتصلات، تتيح لهم فرصاﹰ عديدة لبدء المشروعات الاقتصادية، من مختلف الأحجام والنجاح فى إدارتها والتغلب على المشكلات التى تواجهها”٤.  

 

إن الخطوة الأولى هى أن يتعلم الحراك الطلابى من تجارب المنظمات الطوعية المستقلة فى مجالات التعبئة والتمويل والتنظيم.  فهذه المنظمات هى “مدارس للتنشئة السياسية على الديمقراطية فسواء كانت جمعية خيرية، أو نادياﹰ رياضياﹰ، أو حزباﹰ سياسياﹰ، أو نقابة عمالية…فإنها تدرب أعضاءها على الفنون والمهارات اللازمة للديموقراطية فى المجتمع الأكبر: الالتزام بشروط العضوية، وحقوقها وواجباتها، والمشاركة فى النشاط العام، والتعبير عن الرأى، والإستماع إلى الرأى الآخر، وعضوية اللجان، والتصويت على القرارات، والمشاركة فى الانتخابات وقبول النتائج، سواء كانت على هوى العضو أو لم تكن”٥.

 

فإذا كان الهدف هو إحداث التغيير الاجتماعى فإن الحراك والعمل فى مجالات البنية التحتية للمجتمع يمثل تحدياﹰ أكبر من النشاط السياسى البحت. فهو جهد ذو عائد ملموس سواء أكان ذلك بالمشاركة فى حملة تشجير أوالمساهمة فى برامج تعليمية أوالريادة فى التعبئة لمقاومة تغول السلطات أو المستثمرين على ميدان عام، على سبيل المثال لا الحصر. من شأن هذه النشاطات أن تغذى الشعور بالمسئولية الوطنية الإجتماعية والوعى الثقافى والوطنى كما من شأنها ترسيخ التكافل المجتمعى والتفاؤل الجماعى بطريقة علها تفتح الاؔفاق لحراك سياسى طلابى أكثر طموحاﹰ وأوفر نجاحاﹰ.

 

ومن هنا تنبع أهمية الحراك الاجتماعى ليس فقط كغاية فى حد ذاته بل أيضاﹰ كوسيلة لتفعيل الحراك السياسى. إن من الحقائق المؤلمة التجاهل النسبى لقطاعات من المجتمع لحراكات طلابية عديدة خلال ما يقارب ربع قرن من الحكم الشمولى والقمع الأمنى (ولنا فى انتفاضات الطلاب  فى صيف ۲۰۱۲ خير مثال). ولعل لهذا التجاهل أسبابه كالانشغال مثلاﹰ وراء توفير لقمة العيش فى ظروف معيشية بالغة الصعوبة أو الشعور بالاحباط أو التخوف مما يأتى به المجهول. ومما لا شك فيه أن ضعف التجاوب أو التفاعل الشعبى  قدأاصاب الحراك السياسى الطلابى بكثير من الاحباط والاستياء. ولكن ماذا يكون موقف قطاعات المجتمع المختلفة وهم يرون الطلاب الذين يتصدون للحراك السياسى هم أنفسهم الذين دفعوا فاتورة العمل المجتمعى سواء أكان ذلك فى حملات محو الأمية أو المشاركة فى بناء مركز صحى أو مدرسة أو ساهموا بطريقة أو بأخرى فى خدمة مجتمعهم المحلى؟ فى تقديرى أنهم لن يقفوا موقف المتفرج (كما يحدث حالياﹰ) وهم يرون هولاء الطلاب يتعرضون لآلة القمع الأمنى. وعندها يصبح البديل الذى يخشى الكثيرون من تكراره غير ذى موضوع لأن الشباب الذى عرك العمل الاجتماعى والسياسى وعانى أكثر من غيره سيصبح من العسير أن تنسحب عليه نفس الخيارت التقليدية التى أتت فى أعقاب ثورتى أكتوبر ۱۹٦٤ وأبريل ۱۹۸٤.

 

 

تداخل قوى القطاع الثالث وتفعيل الحراك

 

وبالنظرإلى الضغوط الهائلة التى وضعتها ثورة التعلبم العالى على كاهل الطلاب، وحال القنوط والاحباط الذى ولدته، فضلاﹰ عن تدنى مستوى و نوعية التعليم وما نجم من ذلك من تراجع معرفة الطلاب وانحسار احساسهم أو اهتمامهم بالقضايا السياسية والاجتماعية، بالنظر الى كل ذلك فإنه ليس من السهولة التفاؤل بحراك طلابى يفضى إلى الحراك الاجتماعى المنشود والذى هو الاكثر تكلفة و صعوبة على مستوى الفرد والأشد تعقيدا على المستوى التنظيمى. سوى أن ثمة قوىٔ تتداخل و تتفاعل ربما تجعل من احتمال تفعيل هذا الحراك أمرا ممكناﹰ.  

 

أولاﹰ، إن ازدياد المنظومات غير الحكومية عالمياﹰ وإقليمياﹰ و قومياﹰ فى البلاد المتقدمة فى المركز(centre) كما فى دول الاطراف (peripheries) وتنامى التواصل بينها عبر الحدود القطرية والاقليمية ، قد أثار بعض الأسئلة عن علاقة العولمة، كمشروع ذى جذور رأسمالية عميقة، بهذا الانتشار الهائل لهذه المنظمات الطوعية. وبغض النظر عن المسألة الخلافية فى أن هذا الانتشار تزامن صدفةﹰ مع سياسات العولمة أو أنه جاء كٙمٙصلٍ لعلاج بعض آثارها السالبة، فمن الواضح أن بعض أوجه العولمة أفادت المنظمات الطوعية بطريقتين متداخلتين: من ناحية فإنها غيرت ميزان القُوى بين القطاع الخاص والعام، وأوجدت فرصاﹰ وإمكانات لتعزيز القطاع الثالث خاصة فى مجال الحراك الدعوى (advocacy activism). وفى نفس الوقت فإن ثورة المعلومات، التى لازمت العولمة، قد فتحت مجالات المعرفة والتكنلوجيا للكثيرين مما جعل القضايا المتعلقة بحقوق الانسان (فى الديمقراطية وحق العمل وحماية البيئة والأمن، الخ) هماﹰ عالمياﹰ. ولهذا فمن الراجح أن الأُنظومات غير الحكومية ستزداد أهميتها وأن أداء الخدمات سيشملها دٙرٙجاً ويُقًرب دورها من عملية صنع القرار٦.

 

إن هذا التقدم على الساحة العالمية والذى يبدو فيه تطابق الأجندة الايجابية للعولمة مع أهداف منظمات القطاع الثالث العالمية (تعزيز الاستقرار السياسى والتلاحم الاجتماعى فى الأطراف، دعم المجموعات المهمشة، التركيز على حقوق الإنسان، الخ) صاحبه على المستوى الاقليمى إفساح لها متصاعد وإسماح من قِبل الدولة وقبول نسبى بالدور المتنامى لمنظمات القطاع الثالث. بل إنه لبضع سنين كانت هناك حركة لربط بعض المنظمات المحلية والقطرية برصيفاتها الاقليمية من خلال الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، وتمديد الربط ليشمل المنظمات العالمية المماثلة. إن الشبكة الاقليمية والعالمية لهذه المنظمات تجعل من مقدرة الأنظمة الاستبدادية على المستوى المحلى أشد صعوبة فى كبت التحركات والمبادرات للتنظيم الجماعى، كما ان هذه الشبكة توفر الموارد والنموذج لإنشاء انظومات جديدة وتساعد فى استدامتها.

 

ثانياﹰ، ومن ناحية ايجابية فإن انتشارالمنظومات المحلية المستقلة من شأنه أن يساعد الحراك الطلابى بوسائل عدة.  ذلك أنه فضلاﹰ عن الدروس المستفادة من تجاربها فإنه بامكان هذه المنظمات القيام بدور الوسيط لدى الجهات المانحة نيابة عن جماعات الحراك الطلابى الناشئة أو استيعابهم كشركاء فى مشروعات مشتركة لفترة محددة. كما يمكن لمجموعة ناشئة الالتحاق بغرض التدرب واكتساب الخبرة (internship) بمنظمة مناسبة حسب نشاطها الاجتماعى أو المشروع الذى تعمل فيه (ويبدو أن بعض المجموعات الطلابية تحركت فعلاﹰ فى هذا الاتجاه). وبإمكان المنظمات العريقة المستقلة أن تشكل رابطاﹰ ومرتكٙزاﹰ ومنسقاﹰ للعديد من جماعات الطلاب التى قد تنشط بمعزلٍ بعضها عن بعض فى مشاريع مختلفة وأقاليم ومناطق متباينة. مثلاﹰ ليس هناك ما يحول بين رابطة أبناء حلفا القديمة فى الجامعة الاهلية ورابطة أبناء قبيلة البارى فى جامعة جوبا من تبادل الرأى والخبرة فى النشاطات المتشابهة أو حتى تبادل الناشطين بطريقة مشابهة لبرامج التبادل العلمى بين المؤسسات الأكاديمية. ولعل مثل هذا التبادل الشمالى-الجنوبى يكتسب أبعاداﹰ إيجابية فى خلق مناخ متعافٍ نسبياﹰ وسط الاجيال القادمة فى البلدين.

 

ثالثاﹰ، إن مثل هذا التعاون من شأنه أن يوجه تركيز هذه الروابط الاقليمية إلى الداخل كقُوىً جاذبة (centrifugal) بدلا من احتمال توجهها خارجيا كقُوىٔ طاردة (centripetal)، كما من شأنه أن يحول، بِمٙرً الزمان، انكفاءها على ذاتها إقليمياﹰ وعرقياﹰ إلى انتماء تحت مظلة قومية لتنظيم جماعى ذى قاعدة طلابية عريضة. وعندما ينضج الحراك الاجتماعى فإنه من غير المستبعد أن الصلات التى أقُيمت مع المنظمات غير الحكومية فى المرحلة التأسيسية سترقى إلى مثل مكانة الشراكة التى ٙرتٙقٙت النشاط الطلابى السياسى إلى النقابات العمالية والمهنية إبان النضال فى عهود سالفة. بعض هذه الروابط الطلابية العاملة وسط مجتماعاتها المحلية فى أيام العطلات الدراسية لها فى المدى القريب فرص متاحة للعمل فى مجال التنظيم المجتمعى والتعبئة لكى تجعل جهودها دائمة ومستمرة عن طريق التوعية لا سيما فى أوساط الشباب، وتتواصل مع جماعات الطلاب الأخرى فى المجتمعات المحلية المجاورة. إن مشاركة طلاب المرحلة الثانوية ضرورية لتربية وتنمية إحساسهم بحاجات مجتمعهم المحلى والتعاطى معها عند انتقالهم إلى مؤسسات التعليم العالى.

 

رابعاﹰ، لعله من المفارقة أن ُفرصاﹰ وفتحاﹰ فى مجال النشاط الطلابى قد تكون وفرتها – عن غير قصد – بعض أوجه سياسات ثورة التعليم العالى. فالجامعات الجديدة فى أقاليم البلاد واطرافها تُقٗرب الطلاب إلى محلياتهم وتجعل من النشاط المحلى أمراﹰ أقل تعقيداﹰ من ناحية تنظيمية وأشد إلحاحاﹰ وأكثر فائدة وأكبر عائداﹰ للناشطين ولمجتمعهم. وحتى الإعسار المالى المتصل بسكن ومواصلات  الطلاب فى الجامعات فى الحضر، وفصل الشأن الأكاديمى عن غيره من القضايا والمناشط التى تحدث فى الحرم الجامعى، يمكن أن يخدم هدفاﹰ تربوياﹰ إذا قرّب الطلاب من المجتمع وشحذ إحساسهم بالأوضاع التى يعيشها السواد الأعظم من الناس.   

 

خامساﹰ، إن النسبة العالية للبطالة وسط خريجى الجامعات دفعت بأعداد منهم ليبحثوا عن دراسات عليا ليست لها صلة بتخصصاتهم الأكاديمية أو بالمهنة التى قد يمتهنونها، أو يهدروا مواهبهم فى مجالات عمل لا ترضى طموحهم ولا ترقى لمؤهلاتهم. إن طاقات هؤلاء ومقدراتهم وأوقاتهم ربما كان الأجدى لها أن تُوظف فى خدمة مشروعات تختص بالمجتمع المحلى. إن المنظمات المستقلة بإمكانها أن تُساعد على فعل ذلك (وبعضها قد بدأ هذا الجهد فعلاﹰ) بتعزيز التدريب وتوفير الفرص والإمكانات.

 

سادساﹰ، إن التطورات الداخلية فى السودان رغم المأساة التى تكتنفها – ولعله بسببها – تشكل حافزاﹰ قوياﹰ لحراك الطلاب الاجتماعى خاصة بعد انحسار الموجة الأخيرة للتحرك السياسى فى مواجهة القمع الأمنى. فالنزوح الهائل الذى حدث فى مختلف أنحاء البلاد، خاصة دارفور وجنوب كردفان، نتيجة لحرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف، هو دافع قوى للحراك الإجتماعى أو ينبغى أن يكون، خاصة فى أوساط ابناء المناطق المنكوبة.

 

وأخيراﹰ، فإن أهل الاطراف هم تقليدياﹰ مصادر لبعض الممارسات التى تبدو بدائية بمفهومنا العصرى ولكنها تُنبىء عن طاقة خلاقة وإبداع فطرى. ففكرة “النفير” مثلاﹰ فيها مغازِ إشتركية قد تكون بدائية هيكلياﹰ ولكنها تحمل معانى التضامن الجماعى فى ابسط واعمق صوره. كذلك فكرة شيوخ القرية فى افريقيا وهم جلوس تحت الشجرة، (Elders under the tree) يتداولون فى شؤون قبيلتهم والتى تعيد للأذهان نمط الديمقراطية المباشرة فى “أثينا” القديمة.  إن مثل هذا الابداع الفطرى، رغم ما يبدوعليه من رومانسية، من شأنه أن يشحذ الهمم عند التصدى لمشاكل التغييرالمعقدة: إبتداع الحلول وإستلهام الابتكار.

 

 

تجربة الجمعية السودانية لحماية البيئة

 

قبل التطرق لتجربة الجمعية السودانية لحماية البيئة قد يكون من المفيد النظر فى الصعوبات والتحديات التى ظلت تواجه المجتمع المدنى بصفة عامة والمنظمات الطوعية بصفة خاصة. فى الأنظمة الديمقراطية فإن مكونات المجتمع المدنى من المنظمات الدعوية (advocacy) (حقوق الأنسان، حق العمل والديمقراطية وفى حماية البيئة و توفير الأمن) تعمل فى حرية بل هى فى الواقع جزء لا يتجزأ من النسيج الديمقراطى للمجتمع ككل. “إن الصلة بين المجتمع المدنى و التحول الديمقراطى تبدو واضحة ومنطقية.  فالديمقراطية هى مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته للإدارة السلمية للعلاقات بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة. ومن ثم فإن الأساس المعيارى للمجتمع المدنى هو الأساس المعيارى للديمقراطية” بمعنى “أن تكوينات المجتمع المدنى هى افضل قنوات المشاركة الشعبية فى الحكم”٦.

 

اما فى النظام الراهن، شأنه شأن كل الأنظمة الشمولية، فقد تم تأميم النقابات العمالية والمهنية لتصبح من روافد السلطة والحزب الحاكم. كما أن أحزاب المعارضة التقليدية، بإفلاسها السياسى وعدم فعاليتها المزمنة، قد جرى ترويضها بسياسات الترغيب و الترهيب، مما ترك العمل فى ساحة القطاع الثالث محصوراﹰ فى بعض منظمات المجتمع المدنى الطوعية التى تحاول ملء الفراغات التى تغيب عنها الدولة ولكن عليها أن تسير على حبل رفيع تحاول فيه المحافظة على استقلاليتها من ناحية وتفادى الاحتكاك مع سلطات قد لاتتفهم كثيراﹰ طبيعة العمل الطوعى وعادة ما تتعامل معه من منظور أمنى.

 

لعل هذا يفسر لحد كبير إزدواجية تعامل السلطات مع المنظمات الموالية للنظام والمنظمات المستقلة. بل إن مقدرة هذه المنظمات المستقلة (نسبيا فى بعض الأحيان)على تخطى العقبات وتجاوز العوائق، تحت ظروف تقارب ربع القرن من الحكم الشمولى، هو فى حد ذاته أمر مثير للإعجاب حقاﹰ. وهذه الازدواجية فى التعامل تنسجم مع استراتيجية النظام العامة للاستحواذ والاقصاء. وهكذا بدﱠل النظام قانون مفوضية الإغاثة و إعادة البناء لعام ۱۹۸٦ بقانون مفوضية العون الإنسانى لعام ۱۹۹۹ من أجل تنظيم العمل الاجتماعى الطوعى باستبعاد العمل السياسى منه. ويبدو أن الدور الأساسى لهذه المفوضية أن تكون مٙقٙاصّة أمنية للمتقدمين للعمل الطوعى وقطع الطريق أمام من لا يتمتعون بالمؤهلات المبرئة للذمة (إسلامية كانت أو أمنية) .

 

وكما تبين بعض الدراسات ثنائية التعامل فيما يتعلق بالتسجيل والتمويل وإمكانية الوصول إلى المجموعات المستهدفة. فحتى المنظمات المستقلة التى تتمكن من تخطى حواجز التسجيل تواجه بعد ذلك عقبات عظمى فى الحصول على التمويل مما ينعكس بدوره على صعوبة الوصول إلى المجموعات المستهدفة. فمصدرها الأساسى للتمويل يكاد يقتصرعلى وكالات الأمم ألمتحدة والإتحاد الاوربى والمانحين الغربيين عموما من منظمات وغيرها. وفى المقابل فإن المنظمات الطوعية الإسلامية تتمتع بكل الميزات التى توفرها الدولة من مِنح المصارف الإسلامية والأعمال التجارية إلى التمويل غير المباشر من خلال الاعفاءات الجمركية والضريبية بالإضافة إلى التمويل من المنظمات الاسلامية الاقليمية والعالمية٧.

 

ولكن بعض هذه القيود خُفؔفت إلى حد ما بعد اتفاقية السلام الشامل عام ۲۰۰۵ وتكونت فى هذه الفترة من التحرر النسبى العديد من المنظمات المحلية كما دخل على الساحة عدد من المنظمات العالمية ركزت معظم أنشطتتها فى مشاريع للسلام والتعمير بعد انتهاء الصراع(post-conflict reconstruction)  ولكن بعد انفصال الجنوب والنقاش هذه الأيام عن طبيعة الدستورالمقترح فقد بدأ يلوح فى الأفق شبح تغول حكومى جديد قد يبدو أمامه الوضع الراهن وكأنه عصر ذهبى.

 

إنه من الواضح أن حال الأنظومات غير الحكومية (NGOs)  فى الوقت الراهن ما زال بعيداﹰ عن الأوضاع المثُلى المفُضية إلى تحقيق الاهداف الاجتماعية من ترقية الوضع القانونى الذى يوفر بيئة تحمى النشاط الطوعى، والتركيز على الديمقراطية والنزاهة و الشفافية كآلية للعمل فى القطاع الثالث، وضرورة تفادى هيمنة الدولة أو الاحزاب السياسية أو الجماعات العقائدية أو الحكومات والمانحين الأجانب. كذلك لا بدٙ من تعزيز القيم التعليمية التى تٙحضً على المشاركة الفاعلة والمستدامة.  ومن هنا فقد يكون للتساؤل عن غياب أو تقاعس المجتمع المدنى له ما يبرره بشكل عام ولكنه فى نفس الوقت يجنح إلى التقليل من مساهمات ونجاحات بعض مؤسسات القطاع الثالث. فأى مساهمات ونشاطات للمجتمع المدنى، تحت الظروف القاسية التى يعيشها السودان، حتى لو كانت قاصرة أو متواضعة أو لم تؤتِ ثمارها بعد، فهى فى نهاية الأمر تمثل توجهاﹰ نحو ما هو أفضل. أرى عند الحديث عن الدور المجتمعى الذى تؤديه، ويمكن أن تساهم أكثر فى تجويده، بعض منظمات المجتمع المدنى أن الجمعية السودانية لحماية البيئة هى أكثر قرباﹰ للمناخ الملائم لنقلة النشاط السياسى إلى الحراك الإجتماعى.    

 

لماذا الجمعية السودانية لحماية البيئة؟ والإجابة ليست فقط فى عراقة الجمعية التى تأسست فى عام ۱۹۸٥ ومرت بعدة مراحل من التطور الكمى والنوعى فى المناشط؛ ولا فى عددية العضوية التى فاقت ال۱۰۰۰۰ والمفتوحة لكل سودانى من سن الثامنة عشر بغض النظر عن العرق والدين والجنس (gender) غالبيتهم من الشباب و يغلب فيهم العنصر النسوى؛ ولا فى التوسع الهائل والانتشار الجغرافى لفروع الجمعية التى تفوق المائة والمنتشرة فى كل ولايات السودان.  ألإجابة تٙكمُن فى طبيعة العمل الذى تقوم به والذى يرتبط أساساﹰ بالتواصل المجتمعى وخصوصاﹰ فى الأطراف المهمشة .

 

الجمعية تسعى للعمل على “حماية البيئة وإصحاحها بهدف تحقيق التنمية المستدامة والمناصرة الايجابية ونشر وتنمية الوعى البيئى بين المواطنين وتنظيماتهم المختلفة وتفعيل مشاركتهم فى المحافظة على البيئة وتنميتها.وتشجيع ورعاية المبادرات البيئية الإيجابية”. وأهداف الجمعية لا تنحصر فى مجال بيئى ضيق بل تشمل أيضا “العمل على تحقيق السلام وإنهاء الحروب والنزاعات خاصة تلك التى ترتبط بالموراد الطبيعية ومعالجة آثارها وحماية وتعزيز الحقوق الإنسانية ومحاربة الفقر وآثاره السالبة على البيئة”. وسائل الجمعية فى تحقيق أهدافها تشمل: الالتزام بقواعد الحكم الرشيد (good governance) فى تكوين الجمعية ونشاطها ومجالات عملها، واستقطاب و تفعيل العضوية وخاصة المجموعات القاعدية والمتأثرة بالقضايا من ذوى المقدرة والكفاءة فى التخصصات المختلفة. كما تشمل بناء قدرات أعضاء الجمعية وغيرهم وتوظيف وسائل الإتصال المختلفة وتقانة المعلومات لتحقيق تواصل مستمر مع قطاعات المجتمع المختلفة ومع العالم الخارجى”. والجمعية تسعى للعمل “على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتعزيز وحماية الحقوق الإنسانية خاصة البيئية والعمل على تبنى مشاريع تساهم فى محاربة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة والأمن البشرى والبيئى”. ومن بين وسائل الجمعية لتحقيق أهدافها “العمل على إدخال وتطوير العلوم البيئية فى المناهج التعليمية.”۸

 

فى الخطة الاستراتجية الثانية للجمعية (۲۰۰٤- ۲۰۱۳) يلخص التقريرالإنجازات التى حققتها الجمعية تحت الخطة الاستراتجية الاولى (۱۹۹۲-۲۰۰۳) والمتمثلة فى الآتى: المبادرة فى تنفيذ إعادة تأهيل مشاريع تجريبية صغيرة (pilot schemes) والنجاح فى تقديم مبادرات بديلة لاقت قبولاﹰ شعبياﹰ وثقة المانحين فى الداخل والخارج. كما أن الجمعية دعمت صلاتها بالإعلام ونجحت فى تزويد مكتبتها بمعلومات بيئية  قيمة. كما شاركت فى العديد من منابر ومؤتمرات البيئة فى الداخل والخارج وفى كل هذه الجهود فإن الجمعية  حرصت على العمل التعاونى والتنسيقى والاتصالى مع المؤسسات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية المعنية. والكثير من نجاح الجمعية فى الوصول لأهدافها يرجع إلى المساعدة المستمرة للمانحيين من الخارج.

 

ولعله يبدو غريباﹰ أنه بعد ذكرهذه الانجازات أن يكون أول أوجه القصور فى نفس التقرير “الاعتماد الرئيسى على المساعدات الخارجية”. تُلخِص الجمعية فى تقريرها مواضع قصورها وضعفها  (فى نوع من النقد الذاتى قل ما نشاهده فى الساحة السودانية) فى اعتمادها الغالب على المساعدات الخارجية (اكثر من ۹۰٪ من التمويل)، وفى ضعف الأداء التنفيذى وعدم استقرار الهيكل التنظيمى، وفى شعورعدد كبير من العضوية بخيبة الأمل خاصة وسط الخريجين الجدد الذين ينضمون للجمعية بحثاﹰ عن وظيفة فى حين أن طبيعة الجمعية الطوعية لا تمكنها من الاستجابة لتطلاعاتهم فى وقت فشلت فيه الدولة فى خلق فرص التوظيف والعمل لهم. كما أن هناك عدم وضوح فى العلاقة بين فروع الجمعية فى الاقاليم ومركزها الرئيسى فى الخرطوم مما نتج عنه مثلاﹰ توقع بعض الفروع أن المركز سيقوم بتمويل كل أنشطتهم على فرضية أنه المصدر لموارد مالية غير محدودة. ويعزو التقرير ضبابية العلاقة لعدم مشاركة الفروع فى عملية صنع القرار والذى بدوره يرجع للتأخير فى عملية وضع الخطوط النهائية لإعادة هيكلة الجمعية.  ومما يزيد الأمور تعقيداﹰ ضعف وسائل الاتصال بين المركز والفروع إذ أن الجمعية فشلت (حين كتابة هذا التقريرفى ۲۰۰۳) فى انشاء نظام للمعلومات لخدمة المركز والفروع وإن ضعف الهيكل المؤسسى والمقدرات المحدودة لأغلبية الفروع قد ساهم فى استمرارية هذا الوضع۹.  

 

وفى تقديرى أن أكثر أوجه التقصير خطورة هو اعتراف التقرير حينئذ بضعف العلاقة بين الجمعية وأعضائها وضعف مشاركة الاعضاء فى نشاطات الجمعية.  ليس ذلك فحسب فالتقرير يقر بضعف المتابعة والتقييم للمشاريع المختلفة التى نفذتها الجمعية، وغياب أى خطط سنوية جيدة التعريف لأهداف واضحة ومحددة. ويٙخلصُ التقرير إلى أن ذلك “انعكس سلباﹰ على مجمل  أداء  الجمعية”. ويعترف التقرير أن الخطة الأستراتجية الاولى (۱۹۹۲-۲۰۰۳) لم تنجح فى الاستفادة بطريقة أفضل من مقدرات الاعضاء الشباب والمتطوعين وذوى الخبرات المتخصصة.  كما أن الجمعية تحتاج لتنمية قاعدة ومعايير جديدة فى اختيار من يمثلها فى المنابرالمختلفة داخلياﹰ وخارجاﹰ.۱۰

 

والسؤال الذى يطرح نفسه بعد قرابة العشر سنين من كتابة هذه الخطة العشرية: ماذا جد فى وضع الجمعية؟ وماذا تم من انجازات أو على الأقل فى معالجة القصور؟ فى خطاب المؤتمر العام غير الاجرائى لعام ۲۰۱۲ الدورة الخامسة عشر يبدو واضحاﹰ أن الاعتماد على التمويل الخارجى، والذى تعتبره الجمعية مصدر قوة ومصدر ضعف فى آن، قد تزايد فى ظل التراجع المريع للاقتصاد الوطنى. لكن تم تعديل الهيكل التنظيمى ليصبح أكثر مرونة وتم تجميع الأنشطة المتشابهة للاستفادة من التخصص والعمل لتوضيح العلاقة بين مركز الجمعية وفروعها. مشكلة ضعف وسائل الاتصلات حُلت نسبياﹰ بعد الانتقال الى مقر الجمعية الجديد كما أن مركزاﹰ للمعلومات تم انشاؤه ولكنه يفتقد الكفاءات الإدرية والفنية فى تقنية المعلومات اللازمة لتطويره الى مركز للمعلومات والدراسات البيئية وتبادل المعرفة مع الجمعيات الطوعية والمؤسسات العلميةالآخرى فى الداخل والخارج.

 

ومن الملفت للنظر، لأنه يتصل بموضوع هذه الورقة، أن الهيكل الجديد شمل “تكوين لجان دائمة من المتطوعين متخصصة فى مجالات عمل الجمعية لتفعيل دورها فى الاعداد والتخطيط و التنفيذ”۱۱. ولكن الهيكل لا يوضح كيفية التوصل لى هذا الوضع المنشود فىى وقت يشكل فيه فقدان الجمعية لأعداد  كبيرة من ألاعضاء والمتطوعين (نتيجة لأوضاعهم المالية الصعبة تحت الظروف الاقتصادية المتردية فى البلاد) واحداﹰ من أهم التحديات التى تواجهها. وقد يكون الحل، الجزئى على الأقل، فى التوسع فى فروع الجمعية بالجامعات والتركيز على الاستعانة بالمتطوعين من الطلاب، حتى لو اقتصر تعاونهم على عطلاتهم السنوية. وبالمقارنة مع الخريجين والموظفين، فإن الطلاب أقل تاثرا بالضغوط المالية و قليل من الحوافز قد تكفى احتياجاتهم. ولعل فى مثل هذا التوجه مدخل أكبر لولوج الطلاب فى الحراك الاجتماعى. فى كثير من دول العالم تجمع اعداد كبيرة من الطلاب بين العمل والدراسة فى آن واحد ، وفى أعداد أكبر يجنح الطلاب للعمل فى العطلات الصيفية. أما عن العمل الطوعى فيكفى القول أنه كان للمتطوعين من الطلاب فى حملة الانتخابات الامريكية الاخيرة دور فاعل فى وصول مرشحهم لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية تماما كما فعلوا فى الانتخابات الرئاسية الماضية فى ۲۰۰۸.

 

 

برنامج الإرشاد الريفى لجامعة الأحفاد للبنات

 

تقوم الرؤية الفلسفية التعليمية لجامعة الأحفاد للبنات على مفهوم “الإرتباط المدنى” (Civic Engagement) وذلك من خلال برامج تواصل لها صلة مباشرة مع المجتمات المحلية خاصة فى المناطق الريفية.  إن تفرد الجامعة بالمقارنة مع رصيفاتها يكمن فى التزاماتها الاكاديمية ومسؤليتها الاجتماعية من خلال إرتباطاتها المدنية المتعددة والتى تتيح للطالبات تجربة فريدة فى تعرف حاجات المجتمع المحلى وكيفية الإستجاية لها.۱۲

 

بدأ برنامج التواصل المجتمعى (outreach programme) فى عام ۱۹۷۳ كجزء لا يتجزأ من المقرر الدراسى لمدرسة علوم ةالأسرة ( School of Family Sciences) (الأن مدرسة العلوم الصحية).  أُنشئ هذا المنهج الدراسى كاستجابة لحاجة ترقية مقومات الحياة للأسر فى المناطق الريفية والحضرية. وفى عام ۱۹۷۸ أصبح البرنامج منهجا اجبارياﹰ لكل طالبات السنة الثالثة فى كل الكليات، والآن صار البرنامج إجبارياﹰ لكل طالبات السنة الرابعة فى كل الكليات ما عدا كلية الطب التى يتوجب على طالباتها أخذ هذا المنهج فى السنة الأولى. أهداف برنامج التواصل الريفى تتمثل فىى الأتى: تعريف الطالبات بمشاكل الحياة الريفية وتمرينهن على كيفية التعامل معها من خلال التدرب على إعداد المواد التعليمية وأدوات الإتصال اللازمة للتواصل مع القرى فى الريف، تحسين مستوى الحياة فى المجتمعات الريفية خاصة بالنسبة للمرأة، التمرن على وسائل البحوث الاجتماعية فى جمع وتحليل المعلومات المتعلقة باحتياجات المراة فى الريف، وتمرين الطالبات فى مجال التنمية الريفيه وتشجيعهن ليصبحن قوىً دافعة للتغيير الاجتماعى مدعومة بكل المهارات اللازمة للعمل القيادى والتعبوى۱۳.

 

ومن الناحية العملية تقوم الطالبات برحلات ميدانية يتم تنظيمها بالتعاون مع الجهات الحكومية و ألمنظومات غير الحكومية الناشطة فى المنطقة التى يراد زيارتها، ويتم اختيار مواضيع البحوث بالتشاور مع هذه الجهات المحلية. “تهدف رحلات الإرشاد الريفى فى جامعة الاحفاد لتوعية المجتمع الريفى أولاﹰ بقضايا الصحة والتنمية كما أنه يدعمُ الطالبات بخبراتٍ اجتماعية ثمينة ويوفر معلومات لأسرة التدريس فى الجامعة بالإضافة الى متخذى القرار ببيانات تُساعد كثيراﹰ على وضع إستراتيجيات تنموية قومية. وهذه الزيارات تُساعد فى تحديد الطالبات بالأرياف الأكثر حاجة لمنح تعليمية من قِبل الجامعة التى لاتتوانى عن تقديمها لهنّ”۱٤.

 

لعل اكثر الطالبات حماساﹰ لهذا البرنامج هن من كلية الإرشاد الريفى والتعليم و التنمية (REED) فلهن اهتمام خارج الفصل الدراسى (out-of-class interest) فى الانخراط فى العمل التو اصلى والتنموى المجتمعى خاصة من خلال برنامج التمرن لفترة شهر فى الإجازة الصيفية الذى يشكل الركيزة الأساسية للمنهج الدراسى لكلية الإرشاد الريفى و التعليم و التنمية ، وأهم ميزات هذا البرنامج أن المشاركة فى نشاطات ترتكز على المجتمع المحلى (community-based) تعطى الطالبات (خاصة القادمات من مناطق حضرية) الفرصة ليس فقط للتعرف على المشاكل و التحديات التى تواجه المجتمع الريفى بل امكانية تنمية ورعاية المهارات التنظيمية والقيادية والتنمية الذاتية فى هذه المجتمعات خاصة بالنسبة للمرأة. كما أن الخبرات والمهارات التى تجنيها الطالبات من هذا البرنامج قد تساعدهن عند التخرج فى فرص أفضل للعمل فى مشاريع التنمية خاصة فى مواطن الخريجات۱٥.

 

تعتبر جامعة الأحفاد للبنات رائدة فى مجال التواصل مع المجتمعات المحلية (community outreach) ليس فقط بالنسبة للجامعات السودانية بل ايضاﹰ عند المقارنة مع عدد كبير من الجامعات فى دول آخرى بما فيها جامعات ما يسمى العالم الأول. واذا كان ثمة مظاهر للقصور فى برامج الأحفاد التواصلية فلعله يكمن فى فشلها فى تحفيز الطالبات وإثارة اهتمامهن عامة فى التواصل مع المجتمع المحلى خارج المنبر الدراسى وبعد التخرج (ويمكن لحد كبيرإستثناء طالبات كلية الإرشاد الريفى من هذا القصور)۱٦. من ناحية قد يبدو غريباﹰ عدم الإهتمام هذا إذ أن دراسات عديدة فى الغرب دعمت الرأى القائل أن المرأة تميل أكثر من الرجل إلى الانخراط فى النشاطات التواصلية والطوعية. كما أنه لا توجد متابعة مستمرة لدراسة آثار ونتائج الزيارات الميدانية وبالتى فإن المعلومات والبيانات التى يتم الحصول عليها تظل منقوصة وقد لا تفى بمتطلبات أسرة التدريس ومتخذى القرار فى تقييم تجربة التواصل الريفى فى مجملها دعك عن وضع إستراتيجيات تنموية قومية.  ومن ناحية أخرى فمن المفارقة أن المؤسسة الرائدة فى مجال ربط التعليم العالى بإحتياجات المجتمع هى جامعة أهلية ليس لها تقاليد فى الحراك الطلابى (كجامعة الخرطوم مثلاﹰ) بل ليس بها أصلاﹰ إتحاد للطالبات له اهتمام واضح بالقضايا السياسية و القومية.

 

فى الولايات المتحدة نشأت ابتكارات جديدة فى العمل الاجتماعى تشارك فيها المؤسسات التعليمية نفسها مثل نموذج التعليم الموجه لخدمة المجتمع المحلى (أى ربط مٙنح الدرجة الجامعية بالخدمة التى يقدمها الطالب لمجتمعه) وهى اقرب إلى تجربة جامعة الأحفاد وأنماط مستحدثة من التفاعل بين الطالب والمؤسسة التعليمية والقطاع الخاص.  ففى جامعة بيركلى (UC Berkley) برز نوع من الحراك الطلابى الناعم بمبادرة ودعم من الجامعة نفسها. إن المشروع المسمى”تعبئة الاطراف لتغيير المركز” (mobilizing the edges to change the core) قائم على تشجيع الطلاب الفاعلين لكى يفكروا فى حلول لبعض المشاكل الاجتماعية الكبرى (مثل تلوث البيئة، توفيرالطاقة، تحسين الخدمات الصحية) وربط أحسن الأفكار الخلاقة بالتمويل من رجال الأعمال أو الشركات فى القطاع الخاص أو المؤسسات المستقلة من اجل تحويلها الى منتجات وتسويقها تجارياﹰ.

 

 

الخلاصة

 

إن التراجع الراهن فى نشاط الطلاب السياسى ترجع معظم أسبابه لسياسات ما سمى “ثورة التعليم العالى” التى اخضعت مؤسسات التعلبم لأهداف سياسية و أجندة عقائدية نجحت حتى الآن فى احتواء وتحجيم النشاط الطلابى السياسى مما وضع الحركة الطلابية فى مأزق صعب و أمام تحِد كبير. فحينما تمت مصادرة العمل السياسى فى الحرم الجامعى اصبحت الخيارات امام الحراك جد محدودة، فإما الاستسلام لللامبالاة والاحباط أو الدخول فى مواجاهات غير معروفة العواقب مع أجهزة الأمن القمعية.

 

لعل تجاوز هذا الموقف الصعب يكمن فى توجه الحراك الطلابى إلى التواصل المجتمعى لأنه اذا كانت الغاية من الحراك هى إحداث التغيير الإجتماعى فإن العمل فى مجالات االمجتمع المحلى يمثل تحدياﹰ أكبر وأشمل من النشاط السياسى البحت. فمجال القطاع الثالث يوفر البيئة الصالحة للحراك الاجتماعى للطلاب والتحدى هو كيفية تنظيم جهود الطلاب الفردية فى هذا المجال فى حراك اجتماعى جماعى مستقل ذى قاعدة عريضة من الطلاب. إن التوجه نحو الحراك الاجتماعى هو فى جوهره وأساسه عمل سياسى يمهد فى الكثير من جوانبه للتحول الديمقراطى. فالحراك الاجتماعى هو غاية فى ذاته ووسيلة للوصول إلى حراك سياسى أكثر فعالية وانتشاراﹰ بربطه حراك الطلاب المجتمعى بقاعدة شعبية عريضة تسنده وتؤازره فى حراكه السياسى. كما أن إنخراط الحراك الطلابى فى إطار القطاع الثالث واستفادته وتعلمه من تجارب المنظمات الطوعية المستقلة فى مجالات التعبئة والتمويل والتنظيم ينعكس ايجاباﹰ على الحراك السياسى بل ويعزز دور القطاع الثالث ليتجاوز حتى إمكانية التحول الديموقراطى ذاته ليمتد للتنمية الاقتصادية.

 

وبالرغم من السلبيات الهائلة لسياسات التعليم العالى فلا يزال هناك مجال للتفاؤل الحذر بإمكانية حراك طلابى يفضى إلى الحراك الاجتماعى المنشود. فإزدياد المنظومات غير الحكومية عالمياﹰ واقليمياﹰ وقومياﹰ وتنامى التواصل بينها عبر الحدود يشكل ضغوطاﹰ لقبول نسبى بدورها المتنامى من قِبل الدولة. وفى نفس الوقت، فان ثورة المعلومات التى لازمت العولمة، قد فتحت مجالات المعرفة والتكنلوجيا للكثيرين مما يجعل مقدرة الانظمة الاستبدادية على المستوى المحلى أشد صعوبة فى كبت التحركات والمبادرات للتنظيم الجماعى. كما أن هذه الشبكة للمنظمات الطوعية توفر الموارد والنموذج لانشاء انظومات جديدة وتساعد فى استدامتها.  

 

لعله من المفارقات التى تبدو إيجابية أن سياسات ثورة التعليم العالى التى أوجدت جامعة فى كل ولاية تجعل -مع سلبية هذا التوجه – ثمة مقاربة بين الطلاب ومحلياتهم بحيث يكون النشاط المحلى أمراﹰ أقل تعقيداﹰ من ناحية تنظيمية وأكبر عائداﹰ للناشطين ولمجتمعهم. ثم إن النسبة العالية للبطالة وسط خريجى الجامعات، بسسب التوسع الكمى، نتج عنها طاقات ومقدرات مهدرة يمكن أن تُوظف فى خدمة مشروعات مجتمعية وفى نفس الوقت تساعد على حل النقص فى الكوادر الطوعية الذى تعانى منه معظم المنظمات المحلية. كما أن النزوح الهائل الذى يحدث نتيجة للنزاعات المسلحة والاقتتال فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق يشكل دافعاﹰ قوياﹰ للحراك الاجتماعى خاصة من قِبل طلاب المناطق المنكوبة.

 

وبعد أن تم تأميم النقابات العمالية والمهنية لتصبح من روافد السلطة والحزب الحاكم وترويض أو تهميش أحزاب المعارضة فإن الكثير من الصعوبات والتحديات التى تواجه المنظمات الطوعية والمجتمع المدنى بصفة عامة تتمثل فى ازدواجية تعامل السلطة مع المنظمات الطوعية عامة فالتسهيلات والدعم المباشر وغير المباشر يذهب للمنظمات الموالية للسلطة فى حين توضع العراقيل والعقبات أمام المنظمات المستقلة فيما يختص بالتسجيل والتمويل وإمكانية الوصول إلى المجموعات المستهدفة.

 

إن طبيعة العمل الذى تقوم به الجمعية السودانية لحماية البيئة يرتبط أساساﹰ بالتواصل المجتمعى وخصوصاﹰ فى الأطراف المهمشة. ومع إنجازاتها فى مجال تأهيل المشروعات والعمل على تعزيز وحماية الحقوق الانسانية خاصة البيئية والنجاح فى تقديم مبادرات بديلة لاقت قبولاﹰ من المانحين، إلا أنه قد واجهتها عقبات ومشاكل شأنها فى ذلك شأن العديد من المنظمات الطوعية. إن من أهم المشاكل فى هذا الصدد الاعتماد على التمويل الخارجى الذى قد يستمر لفترة زمنية محددة ولمشروعات معينة مما يجعل من الصعب وضع خطط قصيرة المدى فى حالة عدم ضمان التمويل. ومن أوجه القصور المرتبطة بمشاكل التمويل، شعورعدد من اعضاء الجمعية من الشباب بالاحباط (خصوصا فى اوساط أولئك الذين كان انخراطهم فى الجمعية نتيجة العطالة التى يعانى منها أعداد كبيرة من الخريجين) وعدم الاستفادة بطريقة أفضل من مقدرات الأعضاء والمتطوعين وذوى الخبرات المتخصصة.  ولعل هذا القصور يمكن تخفيف حدته إذا تمكنت الحركة الطلابية من تفعيل الحراك الاجتماعى وقامت الجمعية بجهود أكثر لتحفيز ومساعدة هذا التفعيل من خلال حملات توعية أوسع مجالاﹰ فى مؤسسات التعليم المختلفة خاصة الجامعات.

 

تٙتٙوٙسّلُ جامعة الأحفاد للبنات لتحقيق اهدافها باستخدام مجموعة من الآليات منها: الكورسات الدراسية، التدريب اثناء الدراسة، الابحاث الفردية، الدخول على المجتمع المحلى، والإرشاد الريفى. ومن البرامج الدراسية الرائدة مثلاﹰ برنامج الإرشاد الريفى فى كلية الارشاد الريفى والتعليم والتنمية الذى تقوم فيه الطالبات بزيارات ميدانية للريف لمعرفة قضايا المنطقة – لا سيما قضايا المرأة – و جمع المعلومات وتحليلها ومن ثم ايجاد الحلول لها. ويشجع البرنامج الطالبات ليصبحن قوىٔ فاعلة فى التغيير الاجتماعى بل من رائداته وقياداته فى تنمية ورعاية المهارات التنظيمية والقيادية والتنمية الذاتية فى هذه المجتمعات خاصة بالنسبة للمرأة. كما أن الخبرات و المهارات التى تجنيها الطالبات من هذا البرنامج قد تساعدهن عند التخرج فى فرص أفضل للعمل فى مشاريع التنمية خاصة فى مواطن الخريجات. ومن اوجه القصور فى تجربة جامعة الاحفاد عدم متابعة آثار ونتائج التواصل المجتمعى فى الريف والحضر وعدم اهتمام الطالبات (باستثاء طالبات كلية الارشاد) فى التواصل المجتمعى خارج منابر الدراسة وبعد التخرج.

 

فى بعض الجامعات الامريكية توجد نماذج للحراك الاجتماعى يمكن أن تفتح فرصاﹰ لمجاراتها فهناك مثلاﹰ نموذج “التعليم من خلال خدمة المجتمع” والذى يتطلب أن يرتبط الطالب بخدمة فى مجتمعه المحلى كشرط أساسى للتأهل للشهادة الجامعية وهو مماثل فى الكثير.من جوانبه لتجربة جامعة الأحفاد. وهناك أيضا نموذج جامعة بيركلى “التعبئة فى الاطراف لتغيير المركز” ويقوم على مقدرة الطلاب على الابتكار الخلاق ومشاركة من القطاع الخاص فى تمويل الافكار المبدعة و تحويلها الى اختراعات يتم تسويقها على المستوى القومى.

 

ولعل من المهم الإحتذاء بالنمط الأمريكى فيما يختص بالكليات المجتمعية (community colleges). الكثير من الجامعات التى جاءت بها ثورة التعليم العالى لا تمُلك من مكونات الجامعة إلا الإسم. وقد يكون من الأجدى عند النظر مستقبلاﹰفى اصلاح ما افسدته سياسات ثورة التعليم العالى التفكير فى امكانية تحويلها إلى كليات مجتمعية على أن تكون مناهجها مؤسسة على إحتياجات المجتمع المحلى لكل كلية. إن هذا بدوره يفتح مجالات أوسع للطلاب فى تلك المناطق ليس فقط فى الحراك الاجتماعى بل فى تفعيل هذه النقلة التعليمية بدلاﹰ من القنوع بشهادات جامعية قد لا تساوى الورق الذى كُتبت عليه عند تقييمهاعلمياﹰ وعالمياﹰ. اذا كانت ثمة رؤية مستقبلية لاصلاح التعليم فلعلها تكمن فى ربطه أكثر بهموم واحتياجات المجتمع وهذا بدوره قد يجعل من احتمال تفعيل الحراك ليس فقط ممكناﹰ بل راجحاﹰ وربما فى نهاية المطاف حتماﹰ مقضياﹰ.

 

وفى خاتمة الامر فإن الحراك الاجتماعى ينطوى على عمل طوعى بطبيعته وينبغى أن ينطلق بٙدأﹰ من ضمير الطالب الفرد وقناعاته الذاتية. ولكن ثٙمٙة تفاؤل حذر بأن ذات الروح التى ولدت الحراك السياسى الطلابى فى الماضى لا يمكن كبتها الى ما لا نهاية وأن كل تحرك نحو إحداث قدر من التغيير وإن يكُ محدوداﹰ فإنه يأتى بمناخ من المُرج٘ح أن ينمو فيه الحراك الطلابى و يزدهر.

 

 


 الهوامش:

 

(۱) Wikipedia “Student Activism” http://en.wikhpedia.org

 

(۲) سعد الدين إبراهيم فى مقدمته “المجتمع المدنى والتحول الديموقراطى فى الوطن العربى” فى كتاب حيدر إبراهيم على: المجتمع المدنى والتحول الديموقراطى فى السودان مركز ابن خلدون  مع دار الأسين للنشر والتوزيع، صفحة ۷

 

(۳)Eric Shragge, Activism and Social Change: Lessons for Community and Local Organizing, (Broadview Press, Toronto, Canada, 2003) p.43

 

(٤) سعد الدين أبراهيم مصدر سابق ص ۹ ويشير سعدالدين الى كتاب للعالم الاجتماعى الأمريكى روبرت بوتنام يذكر فيه ممارسات “جمعيات الإدخار الدوارة” (Rotating Credit Associations) وهى نموذج لأصغر تكوينات المجتمع المدنى، مما شائع عندنا بعملية “الصندوق”.

 

(٥) سعد الدين، ص٦-۷

 

(٦) James J. Courchene, “The Third Sector”, Panel Presentation to the Conference on The financial Environment of Nonprofit and Voluntary Organizations, School of Policy studies, Queen University, Canada October 2003.  

 

(٧) سعد الدين ص ۱۱

 

(۸) سامية الهادى النقر: الجمعيات غير الحكومية والاسلام السياسى فى السودان (مركز الدراسات العربية والافريقية، مطبعة مدبولى، القاهرة،۲۰۰٦) ص۷۵-۷۹.  وترى سامية النقر أنه بينما تبنت كثير من المنظمات الطوعية الإسلامية والعلمانية أهدافا متعلقة بتمكين النساء ورعاية الطفولة فإن معظم المنظمات الإسلامية تتحاشى التعاطى مع الأهداف المتصلة بالفوارق الإجتماعية أو الصحة الإنجابية أو حقوق الإنسان لأن هذه قضايا لا يستسيغها بعض القادة الإسلاميين. كذلك فإنه بينما تتكاثرأعداد المنظمات المستقلة التى تسعى لإفشاء ثقافة السلام والديمقراطية فإن المنظمات الإسلامية تتعامى عن هذه القضايا.

 

(۹) SECS Strategic Plan (2004-2013) Khartoum, August 2003 pp. 13-14

 

(۱۰) SECS Strategic Plan (2004-213) Khartoum, Sudan, August 2003, pp. 13-14

 

(۱۱) الجمعية السودانية لحماية البيئة، الدورة الخامسة عشر، خطاب المؤتمر العام غير الاجرائى، ۲۰۱۲ ص۱۱.

 

(۱۲) Tadamunn: Towards Civic Engagement in Arab Education 13-14 October: The American University of Cairo. The Role le of Universities in Promoting Civic Engagement and Social Responsibilities: the Case of Ahfad University for Women. October 2008

 

(۱۳) (Dr. Shadia A. Mohamed, Rural Extension Trips: A Manual for Supervisors (nd

 

(۱٤) جامعة الأحفاد للبنات: رحلات الإرشاد الريفى   2012-2011رحلة  رقم (44) ولاية النيل الأبيض الجزيرة أبا. إشراف أمنة  موسى على. ص ۲.

 

(۱٥) د. شادية نصرالدين السيد email interview 2009

 

(۱٦) المصدرالسابق.


 

Back to Top