Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٥): الطريق إلى كمبالا

Al-Rakoba 14 January 2013

الطريق إلى كمبالا

 

 

لكم أيها السادة أن تتخيلوا مدى سعادتى وفرحتى وأنا أقرأ فى الصحف خبراﹰ بالغ الأهمية مفاده أن السادة أعضاء برلماننا الموقر بدءوا التداول فى إيجاد الحلول الناجعة لمشكلة تكدس الأسلحة فى بعض ولاياتنا. يقول نص الخبر: “وضح البرلمان إنتشار السلاح بولاية جنوب كردفان، وأكد أن نزع السلاح من المواطنين بحاجة إلى جهد كبير، وهناك تفكير جمعي في كيفية جمع السلاح المنتشر، وهناك إقتراح بأن يتم تسليم السلاح إلى أجهزة الدولة النظامية بمقابل مادي، ويتبعه عفو”.

 

جلست القرفصاء بعد قراءة هذا الخبر وأنا مذهول بعبقرية رئيسة لجنة الإعلام بالبرلمان التى تفتقت قريحتها عن هذا الاقتراح العظيم الذى لم يسبقنا إليه إلا الأمريكان فى العراق والأمم المتحدة فى الصومال والبوسنة ولا شك أن عبقريتنا هذه قد استلهمته من برنامج الأمم المتحدة “النفط مقابل الغذاء” لتجعل منه برنامج “السلاح مقابل المال”.  لم يكن لدىؐ أدنى شك أن البرلمان سيجيز هذا الإقتراح وإن كانت تراودنى بعض المخاوف من أن يدخل السيد وزير المالية فى ملاسنات مع السيدة رئيسة لجنة الإعلام مثيراﹰ بعض الاعتراضات بحجة أن رفع الحد الأدنى للأجور قد أخل بالموازنة العامة وأن أى مدفوعات آخرى ستزيد الطين بلة، وأنه ليس على استعداد لسد العجز فى الموازنة من جيبه الخاص كما اعتاد أن يفعل منذ أن نضب انسياب البترول.  كما تخوفت أن يتدخل محافظ البنك المركزى ليقترح الإنتظار حتى يرتفع سعر الجنيه السودانى إلى ثلاثة دولارات فى الشهور القليلة القادمة.  ولكن بالمقابل سيرد وزير الدفاع أن الاسلحة التى سيتم جمعها ستكفى لتسليح الجيش وقوات الدفاع الشعبى لمدة قد تزيد عن الوقت الذى يحتاجه سعر الجنيه السودانى للإرتفاع إلى ثلاثة دولارات.

 

وعندما تمت قناعتى بأن “السلاح مقابل المال” آتٍ لا محالة قررت أن أدخل هذا “السوق” فوراﹰ قبل أن يسبقنى إليه سماسرة “سوق المواسير” و”القطط السمان” وشذاذ الآفاق.  صحت فى زوجتى: “يا ولية قولى للأولاد يلموا الكلاشنكوفات والأربيجى والهاونات اللى فى المخزن و يشحنوها طوالى فى الدفار”

 

فردت مستغربة: “عشان شنو يا بو خالد؟ أنت ناوى تسافر ولا شنو؟”

 

فأجبت: “إلى كادوقلى على بركة الله.  فى لجنة عسكرية هناك حتدينا فلوس بدل السلاح”

 

فقالت أم خالد التى طالما أُعجبت بذكائها الفطرى: “لازم تخليهم يدفعوا ليك بالدولار”.

 

خرجنا أنا وأبنى خالد بالدفار فى اتجاه كادوقلى وأنا أنظر بدقة الى كل شاحنة تمر بنا لأتأكد أنها لاتحمل أى نوع من الأسلحة.  توقفنا عند أول نقطة تفتيش نمر بها ولاحظت أنه بجانب العسكر يقف شخص مدنى ملتح يحمل دفتراﹰ ضخماﹰ.  سالنى الضابط المسؤول: “ماشى وين بالشحنة دى يا زول؟” فلما أخبرته بوجهتى إلتفت ناحية الشخص الملتحى الذى بادرنى: “والشحنة دى فيها شنو؟ دقيق، سكر، سمك، صناديق كده من الحبشة من الحاجات إياها؟”

 

فقلت وأنا أمعن النظر الى “زبيبته”: “استغفر الله يا راجل. دى أسلحة وبس”

 

فسألنى والريبة فى عينيه: “الأسلحة دى حال عليها الحول؟”

 

فأجبت وأنا لا أفهم مقصده تماماﹰ: “دى كانت مخزنة وما نزلت السوق إلا حسع عشان ناوى أبيعها للحكومة”.

 

وانتحى بى جانبا وقال هامساﹰ “خلاص لمن تبيعها وتجى راجع تدفع لينا الزكاة عليها” ثم تنحنح وقال بصوت أكثر همساﹰ “وطبعا الزكاة عندنا سبعة فى المية”.  حاولت إخفاء دهشتى وأنا أحسب فى ذهنى النصاب الشرعى للزكاة ووعدته خيراﹰ فالتفت للضابط وقال: “خليه يمشى ده يظهر عليه راجل طيب وعلى نياتو”.

 

تكرر الموقف فى كل نقاط التفتيش التى مررنا بها وللحقيقة كانت تلك أول مرة عرفت أن ديوان الزكاة أُوكلت إليه مسؤولية الإشراف على نقاط التفتيش، ولكن الذى لفت نظرى أن نسبة الزكاة الواجب دفعها كانت تتزايد من نقطة تفتيش إلى آخرى حتى بلغت ونحن على مشارف كادوقلى ۲٥٪.  ولكن عندها لم يكن الأمر ذا أهمية قصوى بالنسبة لى فقد كنت قد قررت منذ نقطة التفتيش الأولى أن عودتنا ستكون عن طريق كمبالا حتى ولو اعترضت طريقنا نقاط تفتيش تابعة “لجيش الرب”.

 

بمجرد دخولى كادوقلى اكتشفت أننى قد استهنت قليلاﹰ بفطنة السودانيين وفهمهم للأمور فقد كان أمامى رتل من السيارات المحملة بكل أنواع الأسلحة، بل أننى أكاد أن أجزم أن السيارة التى أمامى كانت محملة “بالسواطير”.  وبالطبع لن يصدقنى أحد لو قلت أن لوحة السيارة كانت  تحمل أرقاماﹰ سيادية!

 

بعد انتظار طويل وصلت لمقر اللجنة النظامية التى من المفروض أن تشرف على برنامج “السلاح  مقابل المال” وسألنى الضابط المسؤول عند نوع الأسلحة التى أود تسليمها.  وعندما أخبرته قال بنبرة فيها شئ من الضيق أنهم استلموا من الكلاشنكوف والأربيجى ما يكفيهم لسنوات طويلة وسألنى إذا كان يمكننى الحصول على أسلحة متقدمة بعض الشئ. فقلت يمكننى الحصول على الهلِكبتر  Apacheوطائرات بلا طيارPredator ويمكن كمان بعض بطاريات صواريخ “الباترِيوت” المزودة بالرادار والمضادة للطائرات. هنا انفرجت أساريره وقال أننى بذلك اقدم خدمة لبلدى لا تقدر بثمن وأن وزير الدفاع بنفسه سيقلدنى نوط “ابن السودان البار”.  وهنا أخذتنى “الهاشمية” وأخبرته أننى بدافع وطنى وتقديراﹰ منى للظروف الإقتصادية الصعبة  التى تمر بها البلاد أقبل الدفع حتى بالجنيه السودانى على الرغم مما قد يسسببه لى ذلك من مشاكل عائلية مع “أم خالد”.

 

أثنى الرجل على هذا الموقف الوطنى فإنتهزت الفرصة لأذكره بموضوع العفو المرتبط بتسليم السلاح.  هنا نظر لى بإرتياب وسالنى: “انت واحد من جماعة المحاولة التخريبية؟”

 

أجبت بسرعة: “ابدا والله، انا القوش ده ماشفتو فى حياتى”

 

فسألنى: “اوع تكون من جماعة الفجر الجديد؟”

 

فقلت بإستغراب: “وديل يطلعو ايه؟” ويبدو أنه أقتنع بإجابتى فناولنى شيكاﹰ وكان على وشك تسليمى وثيقة العفو السيادية عندما ارتكبت أكبر غلطة فى حياتى فقد سألته بكل عفوية: “سعادتك ممكن تورينى الطريق الى كمبالا بى وين؟”!!


www.alrakoba.net 

Back to Top