Mohamed Beshir Hamid

هواجس ساخرة (٤): المجانين ۲

Al-Rakoba 5 January 2013

 المجانين ۲

  

 

جميل منك أن تتجشم مشاق السفر وتأتى من بلادك البعيدة لإجراء هذا الحوار الصحفى معى.  تفضل بالجلوس وأرجو أن تعذرنى لصغر شقتى وأثاثها البالى.  لا تجلس على هذا المقعد فله ثلاث أرجل فقط.  لماذا لم أقم بإصلاحه؟  لذلك قصة آخرى غير مضحكة عن رئيس وزرائنا المخلوع قد أحكيها لك اذا أسعفنا الوقت. ثم من يدرى فقد ياتى لزيارتى بعض زوار الفجر وأريد أن أُسهل عليهم الامور حتى لاينصرف تفكيرهم الى أمور قد تكون لرجل فى سنى أقسى من الوقوع من كرسى ذى ثلاثة أرجل.  أرى من تعبير وجهك أنك لا تفهم ما أقصد.  لا بأس فليست كل الامور جديرة بالفهم، ولكن قل لى ماذا تريد من هذا اللقاء الصحفى معى؟  أرى ما تعنى فأنت تقوم بإستطلاع لصحيفتكم عن توقعات الأحداث فى العام الجديد فى بعض بلدان العالم الثالث.  لماذا تسالنى اذا كنت أتذكرك؟ هل ألتقينا من قبل؟  أجل هذا صحيح، بالفعل لقد تذكرتك الآن فقد حضرت لاجراء حوار معى عن كتابى “المجانين” إبان فترة الديمقراطية الثالثة المسلوبة.  أجل أنت محق قد كان ذلك فى عهد “ابوكلام” واتفق معك انه بالمقارنة لم يكن عهداﹰ سيئاﹰ ولو قلل من الكلام وأكثر من الافعال لكان سجله أفضل ومن يدرى فربما كان قد جنبنا الكثير من المحن والكوارث اللاحقة.  تقول أنه أعلن نيته التنحى عن العمل السياسى؟ أنك لا شك صحافى ذى مصادر متعددة ولكنى شخصياﹰ لم أسمع بموضوع التنحى هذا ولن اصدقه حتى أراه يتقاعد بالفعل فلى مع الرجل حكايات كثيرة لعل أهمها حكاية “المصداقية المفقودة”.  أرجو أن تغفر لى ضعف ذاكرتى إذا لم أتذكرك على الفورفقد تقدم بى العمر كما ترى وأنتم الفرنجة تتشابهون أكثر من أصدقائنا الجدد من الصينيين والمليزيين.  أراك تبتسم ويبدو انك لا زلت شخصاﹰ مهذباﹰ ولن تؤاخذنى على بعض عباراتى التى قد تبدو للبعض جارحة  بعض الشىء .

 

ماذا؟  تريد أن ترجع لموضوع كتابى “المجانين” الذى ألفته فى الثمانينات؟ ماذا تريد أن تعرف فهو كتاب لم يقرؤه أحد وتراكم الغبار عليه فى فى رفوف المكتبات.  تريد أن تعرف ماذا حدث للسودانيين وحبهم للديمقراطية الذى ذكرته فى كتابى؟  هل تتذكر لماذا سميت كتابى “المجانين”؟ أرى أنك تهز راسك موافقاﹰ فدعنى أعطيك بعض التفاصيل التى قد تكون قد نسيتها.  لقد قلت وقتها أن تسمية  كتابى لا تخلو من التعقيد ولها طابع تراجيدى. هل تتذكر أننى قلت ذلك؟  المسألة هى أننى فى ذلك الوقت ومن غير إجتهاد مضن توصلت لقناعة بأن البلاد كلها على وشك أن يعتريها مس من الجنون وقد رأيت وقتها تحليل تلك الظاهرة قبل أن يستفحل الوباء ويصبح الجميع فى عداد المخبولين.

 

أراك يا صاحبى توافقنى أن هذا كان محور حديثنا حينذاك.  لقد تحدثت يومها على ما أذكرعن أصالة شعبنا والذى هو فى نفس الوقت شعب مغلوب على أمره.  فلنا أشياء نؤمن بها ولكن منهجنا للوصول اليها يهزم غاياتنا، وخياراتنا تأخذنا للطرق المخالفة لمقاصدنا. فلنا مثلاﹰ هذا الوله الشديد بالديمقراطية ولكننا عندما نحاول تجسيدها نصاب فوراﹰ بخيبة الأمل.  وقد يكون واقع أمرنا أشبه بالوقوع فى حب أمراة فاتنة تتملكنا الرغبة الجامحة فى الزواج منها ولكن لا تكاد مراسيم الزواج تنتهى حتى يتغير مذاق “الرومانس” ويصبح طعمه مراﹰ فى حلوقنا.  نحن يا صاحبى نقتل الفرحة بأيدينا. إنها مثل الرغبة فى الفناء فلنا هذا الشعور القهرى فى تحطيم أعز ما نملك ومانريد.  خبرنى إذن يا صاحبى هل كُتب علينا أن نرى حلمنا الجميل يتحول دائماﹰ لكابوس مرعب؟  وهل كُتب علينا بعد كل فترة ديموقراطية قصيرة المدى ان نصحو ذات صباح فاحم السواد لنجد الفارس المغوار ممتطياﹰ صهوة دبابته معلناﹰ علينا فى بيانه الأول أنه أتى لإنقاذنا من حبنا المستحيل؟

 

أنا أذكر الآن عندما قلت لك هذا الكلام فى خريف ۱۹۸۸ أنك عبرت عن شكك فى أن ذلك سيحدث  وأنه بعد ميثاق الدفاع عن الديقراطية لن يجرؤ اى فارس، مغواراﹰ كان أو غير مغوار، على امتطاء دبابته، فهل تتذكر ردى عليك وقتهأ؟ أجل لقد قلت لك أن الشك فى مقدرتنا وقوتنا هو مصيبتنا الكبرى والاستهانة غير المبررة بقدرات خصومنا هو كعب أخيل فى ممارستنا السياسية. ثم أننا نادراﹰ ما نتعلم من اخطائنا او نتعامل بجدية مع مشاكلنا المزمنة فيصبح الشك هو ديدننا.  فنحن نشك فى الحب فنخنقه بأيدينا ونشك فى حقوقنا فى المواطنة فنترك الآخرين يقومون بتعريفها ورسم حدودها، ولكى نكف عن الشكوك نجد أنه يتوجب علينا اولاﹰ أن نضع حداٞ لأحلامنا. ان مجتمعنا يبدو وكأنه خلق خصيصاﹰ لهذا النوع من الإقصاء العشوائي يميناﹰ ويساراﹰ، شمالاﹰ وجنوباﹰ، شرقاﹰ وغرباﹰ، سواء كان خياراﹰ ذاتياﹰ أو أمراﹰ مفروضاﹰ من الآخرين.

 

أجل لقد استفحل الوباء وكاد الجميع أن يصبحوا فى عداد المخبولين.  الإقصاء التى تحدثنا عنه حينذاك حدث ولكنه لم يكن عشوائياﹰبل كان مخططاﹰ ومدروساﹰ ودموياﹰ فى بعض أحيانه ولا نزال نعانى من بعض آثاره الجانبية.  لعلك تذكر أن ميلاد العام الجديد يوافق عيد ميلاد إستقلالنا ولكن قد لا تعرف أن بعض أئمة مساجدنا قد حٙرموا علينا الاحتفال برأس السنة او حتى التهنئة بعيد الميلاد بحسبان إن مثل هذه الممارسات تعتبر فى مفهومهم بدعة نصرانية غربية وبالتى “حرام”.  والمضحك المبكى أن بعض علماء الدين أفتوا بتحريم هذه البدعة النصرانية الغربية فى صفحاتهم الخاصة فى “الفيس بوك” والذى يبدو أنهم يعتقدون انه قد أُخترع فى اسلام باد!  قد أفهم أن يعترض البعض على الإحتفال بعيد إستقلالنا بمعنى أن ما تمخض عنه لا يدعو للإحتفال. ماذا؟ تريد أن تعرف رأيى فى هذا الموضوع؟ حسناﹰ، أنا أرى أن الامر يدعو الى مناحة جماعية وذر الرماد على الرؤوس.  قل لى يا صاحبى ماذا جنينا من الإستقلال سوى تضحيات الرواد الاوئل، رغم هناتهم وهفواتهم لاحقاﹰ، وانتفاضات شعبية تُفرحنا لفترة قبل ان تُجهض وندخل فى دوامة حلقة مفرغة من حكم مدنى/حكم عسكرى/حكم شمولى؟ قبل الإستقلال كان يحتل بلادنا جيش اجنبى من جنس واحد والآن تحتل ربوع بلادنا جيوش من جنسيات عديدة بعض منها نلنا استقلالنا قبلها.  قبل الإستقلال كان عندنا خدمة مدنية إستطعنا أن نوفد منها قضاة ومعلمين واستاذة جامعات وأطباء وضباط جيش وشرطة لتدريب وتعليم من يمتنون علينا هذه الأيام بحفنة ريالات أو دراهم أو دينارات.  وكانت عندنا مؤسسة عسكرية قيل أنه من شدة إنضباطها وإحترامها للسلطة أن محاولة انقلابية بُعٙيدٙ الاستقلال فشلت لأن الدبابات التى أرسلها قادة الانقلاب لإحتلال قلب الخرطوم كانت تتوقف أمام كل إشارة مرور حمراء تقابلها!

 

أراك تبتسم ولكن لا يسعنى إلا التحسر على الكثير الذى أضعناه بأنانيتنا وقصر نظرنا.  لا تعتذر يا صاحبى فأنت لم تجرح شعورى وحقيقةﹰ فى المرات التى يقودنى سوء الطالع للقيادة فى شارع السيد عبدالرحمن وقت الذروة كثيراﹰ ما تمر بمخيلتى صورة ذلك الرتل من الدبابات وهى واقفة أمام نور الإشارة الأحمر وعادة ما تنتزع منى تلك الصورة ابتسامة صغيرة.  تخيل يا صاحبى لو إلتزمت الدبابات فى كل الإنقلابات التى توالت بعد ذلك بنفس المسؤلية المرورية لكفانا الله شر الكثير من المحن لعل منها الازدحام فى شارع السيد عبدالرحمن!

 

هل تريد كوباﹰ من الماء؟ عليك أن تعذرنى فهذا أقصى ما يمكننى تقديمه من فروض الضيافة فى ظروفنا الاقتصادية الراهنه فانت لا شك أدرى بالازمة المالية الطاحنة التى تعتصر عامة الناس عندنا.  ماذا؟  أنت تعرف ايضا الكثير عن قصور كافورى وماليزيا وخلافها؟  هذه يا صاحبى قصة آخرى لا أود الحديث عنها الآن.  أين توقفت فى حديثى؟ أجل التحسر على الكثير الذى أضعناه.  التحسر على مشروع الجزيرة العملاق والمشاريع الزراعية الآخرى وسلة غذاء العالم العربى والافريقى الموعودة  والتى أضحت اليوم سلة التسول والاستدانة.  إن شعبنا لم يُعرف عنه أنه “شحاذ” ولكن قد يكون قدرنا أن يحكمنا شحاذون.  التحسر على الجنوب الذى أضعناه ليس فقط بإتفاقية نيفاشا بل بكل سياسات الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وقبل كل شىء بالذى هو داخل نفوسنا مهما حاولنا إخفاءه والتستر عليه.  تسألنى ماذا أقصد بذلك؟ حقيقة لا أعرف بالضبط ولعل هذه طريقتى فى إخفائه وكل ما يمكننى قوله أننى لو كنت جنوبياﹰ لما ترددت لحظةﹰ فى التصويت للإنفصال.

 

ماذا؟ تريد أن تعرف توقعاتى للعام الجديد؟ حسناﹰ، إذا أصاب وباء الجنون الاقلية المتبقية من السكان فسوف نتصدر بنهاية العام دول العالم الرابع.  أجل أعلم أنه ليس هنال ما يسمى بالعالم الرابع ولكن لكل شىء بداية.  فى البداية كنا من اوائل الدول التى نالت استقلالها فى افريقيا فلماذا لا نكون أول من يدخل العالم الرابع بل أن نكون من أبائه المؤسسين مع الصومال ومالى وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، خاصة وقد أنهينا العام الذى مضى قبل أيام بإغلاق بعض مراكزالدراسات والبحوث وحقوق الانسان والثقافة. لماذا فعلنا ذلك؟ قل لى بربك لماذا نحتاج لكل هذه المراكز المشبوهه ولدينا مشروعنا الحضارى المتكامل؟  ثم أن أحد عباقرتنا أكتشف فجأة أنها تتلقى تمويلاﹰ اجنبياﹰ قد يكون من دولة قطر أو من شركة “عارف” الكويتية والله أعلم.  وقد يكون الزميل الفاتح جبرا له معلومات اكثر دقة فى هذا الموضوع ولكنى لا أنصحك بمقابلته فقد أصبح مثلى من المجانين لأنه مهووس بعض الشىء بما يٙدعى أنه ملف “خط هيثرو”.  المهم ليس هناك من يؤهلنا للدور التاريخى بصدارة العالم الرابع أكثرمن ابداعات “الخبير الوطنى” فى تحليل دخلنا القومى والفردى واستراتيجيات “الطفل المعجزة” الاستثمارية وروائع أدبيات “لحس الكوع” وغيرها من الدرر النفيسة.  بالطبع ستقول أنى عدت للتهكم اليس كذلك؟  أنت ترى إذن أننى أحاول أن “اتفلسف”؟ حسناﹰ، لن أحاول إنكار ذلك.  ولكنى أراك تتأهب للذهاب فهلا مكثت قليلاﹰ؟  معك حق فالوقت فعلاﹰ قد تأخر وقد أكثرت كعادتى فى الثرثرة.  الم أقل لك أننى من زمرة المجانين؟  ولكنى بالتأكيد استمتعت بالحديث معك وأتمنى أن يكون حديثى قد أعطاك بعداﹰ عاشراﹰ لتفهم بعض مشاكلنا.

 

ولكن قل لى يا صاحبى: هل أنت شخص حقيقى أم أنك من صنع خيالى؟  أرى الدهشة ترتسم على وجهك لسؤالى هذا.  أرجوك المعذرة فلم أقصد ان أكون وقحاﹰ.  كل ما فى الأمر أنه بدأ ينتابنى هذا الشعور المجنون بأننى كنت طوال هذه المقابلة أتحدث الى نفسى!


www.alrakoba.net 

Back to Top